بقلم/ انتصار عمار
في فضاء الكون الفسيح، تسبح مليارات النجمات، ووراء كل نجمةٍ قصة، تختبيء خلف الضوء المنبعث منها.
النجوم دومًا تعشق الحياة، وتحبو نحو اللهو والمرح، ففي كل يومٍ يجتمعون سويًا، حيث اللعب، والجري، واللهو.
كصغارٍ تلهو في حارة الزمان، يسابق بعضهم بعضًا، وكأنهم يختطفون من الحياة خبز السعادة.
ويصنعون من أحرفها قلادة الخلود، ويزينون من حباتها جدران الزمن، فلا يصيب قلوبهم إعياءٌ، ولا نصب.
يستظلون تحت ظلال البهجة الوارفة، ويسابقون الشمس حين تسافر بعيدًا، فهم نجوم بقلوب أطفاٍل صغار ، تظلل ملامح وجوههم البراءة.
وتعانق روح الطفولة أعمارهم، فلا يهرمون، ولا يشيخون، فمهما طال عمر النجمة، إلا أن بداخلها طفلةً صغيرة.
تظل تمرح، وتلهو، ولا تكبر مهما شاخ الزمن، ومع إشراقة يومٍ جديد، تطرق فيه أشعة الشمس نافذة الحياة.
حينما تتدلى عناقيد الشمس، تهمس في أذن الصباح، وتنثر أشعتها ذهبًا على كوكب الأرض.
فيطل من تلك النافذة بصيصُ أملٍ، يرسم بجناحيه تباشيرَ الصباح، تباشير تنثر رياحين السعادة في أرجاء الكون.
ويسطع ضوء الشمس في عين النهار، فيكتب بأنامله ميلاد يومٍ جديد، تحاكي فيه الطبيعة، ابتسامة الربيع، وتغازل ضي النجوم، حينما تنزل الشط.
وكانت جميع النجمات كعادتهم يسافرون عبر الشمس، ويتنقلون
بين المنتزهات والحدائق، وكانت السعادة تشرق بوجوهم، والسرور يحتضن وجناتهم.
إلا أنه كان هناك ما يثير الدهشة، والتساؤل، حيث كانت توجد نحمة تجلس وحيدة، بحافة السماء.
تُمسك بقلمها، وتكتب على أوراقٍ ملونة، تشبه أوراق ربيعٍ، في ثوب خريف.
تبدو هذه النجمة وكأنها تخفي بين ثناياها سرًا دفينًا، لغزًا محيرًا، أحرفًا مطموسة.
اقتربت إحدى النجمات منها، كي
تطمئن عليها، وتعلم ما هو السر وراء انغلاقها على ذاتها، وعدم انغماسها في اللعب مع باقي النجمات.
وأيضًا عدم سفرها معهم إلى كوكب الأرض، وتشبسها أن تبقى لحالها في المجرة.
وأخذت تسألها؛ ماذا بك يا عزيزتي؟ لم أصبحت تهوين الوحدة، وتعتزلين مجلسنا؟ ألا ترهقك الوحدة؟ ألا يُعييك الصمت؟
صمتت النجمة قليلًا، إلا أن الدمع بعينها، خانها وتكلم، حين ترقرقت العبرات واحدةً، تلو أخرى.
لكن سرعان ما مسحت النجمة بيديها آثار تلك الدمعات، ولكن ظل قلبها يبكي في صمت.
وظلت هذه النجمة تحيا أنين وحدتها، وتسكن كوخ الصمت، إلا من رسائل مطوية تكتبها كل ليلةٍ.
وترسلها فضاء السماء، رسائل سطرتها أنفاسٌ ترجو اللقاء، وتلك الرسائل لا يقرأها أحد سوى نسمات الهواء، التي تسكن السحاب.
لم تيأس تلك النجمة التي احتارت في أمر “سيما،” وعادت إليها مجددًا، بعدما داعب النوم جفون النجمات.
وظلت تسألها: ماذا بكِ سيما؟ لم تبدين شاحبة الوجه؟ رغم جمالك الساطع الذي يأسر القلوب.
وكأنكِ تعانين أمرًا شاقًا، هلا أسررتني مابك!
تنهدت “سيما” بعمق، كما لو أنها تحبس أنفاسًا لعدة أشهر، ثم أجابتها: وبما يفيد الكلام، ويجدي؟
أجابتها النجمة قائلة: ولم لا؟ ربما عزيزتي، هيا اخرجي عن صمتك، وتحدثي، عسى تجدين واحةً، يرتاح بها دمعك.
شعرت “سيما” بشيء من الراحة في كلام صديقتها” ليال”.
وبدأت تقص “سيما” قصتها على “ليال،” والتي كان عنوانها”الحب الممنوع”.
حيث تحدثت نبضات قلب”سيما،”لتخبر بشديد الأسى، أنها وقعت في غرام “القمر,”وكذلك هو يعشقها.
ورغم تباعد المسافات بينهما، إلا أن كل منهما يستقل شعاع الضوء المنبعث، حتي يصل للآخر.
ورغم أن القمر محاط خصره بهالاتٍ عدة من النجوم، إلا أن قلبه اختار تلك النجمة دون غيرها.
أهو سحر ضوئها؟ أم رقتها المتناهية؟ وعذب صوتها، أم جمال قلبها؟
لا أ حد يدري، فالحب يأتي فجأة، ويطرق باب الهوى دون إبداء أسباب.
في كل ليلة، يغزل القمر في نجمته المعشوقة حلو الأبيات، ويرسلها إليها عبر زفير الأنفاس، وصدى الإحساس.
ومن شدة هيامه بها، كان يختبيء لها خلف ظلال السماء، يرقبها بعينيه، ينير لها عتمة الدرب بحبه.
حب خار قوى الطبيعة، واخترق قوانين السماء، وكأنما خرجت سيما عن دائرة أفلاكها، واخترقت قوانين الهوى.
وخطت بيدها قانونًا جديدًا للجاذبية والعشق، قانونًا يتحدى العالم كله، بأرضه وسمائه، ومخلوقاته الكونية.
ولقد جمعت بين القمر، ونجمته المعشوقة آلاف الرسائل، التي تعزف على وتر الحس.
رسائل تحوي أحرف هوى سطرتها الليالي، نبض ترتجف له السماء، رسائل حبٍ، خُطت في ليالي ذهبية، ليالي تعانق حلو الزمان.
وظلت الرسائل لهيب الشوق المنبعث عبر الكلمات، ورسول الهوى بين كلا الحبيبين.
وظل القمر يرسل إلى سيما أحرفًا عبر نوره، نسجت من حرارة الشوق، وكم كان القمر يغار على سيما، بطريقة جنونية.
لذا كان يحجب ضوءها، حتى لا يراه أحد، وفي ليلة انطفأ فيها ضوء القمر، وغادرت النجوم السماء، وكانت السماء أشبه بخريفٍ، تتساقط دمعاته.
وتئن أوراقه المتهالكة وجعًا، وجف نزيف الصمت، وترامى حبر الهوى على صفحات كتاب الحياة، وأغرقت الدموع نهر الهوى.
حينما علمت سيما أن حبها للقمر، كتب عليه أن لن يرى النور، ولن يربط بين قلبيهما ميثاق.
حيث أنه في إحدى الليالي، أتى “الليل” والد القمر، وأخبر سيما أن زواجها من ابنه مستحيل، ولن يكون.
كانت كلمات “ليل” بمثابة سهام صُوب بصدر سيما، بركان أدى إلى اندلاع نيران شبت بقلبها.
فأدت إلى إصابتها بحالةٍ من الإغماء، ظلت فيها ما يقرب من ثلاثة أيام، وافتقد “قمر” غياب نجمته، وتفقد غيابها.
حيث كانا يلتقيا على صخرة المجرة، وأحس أن وراء غيابها عن الموعد شيئًا يستدعي قلقه.
وبالفعل ذهب ليطمئن عليها، فعلم أنها طريحة الفراش، فطرق باب غرفتها، ودخل كى يرها.
لا تستطيع الحراك، ولا تقوى على الكلام، تسائل الدمع بعينيه، عما أوصل سيما لهذه الحالة.
وظل يرمقها بنظراتٍ يذيب فيها الحزن لهفة الشوق، ومرارة الجوى، وظلت سيما تلتزم الصمت.
حتى ما إن فاقت قليلًا، فامسكت بقلمها، وكتبت إليه رسالتها الأخيرة، والتي كان نصها، كالآتي.
على صفحات الليل الدامي، أكتب إليك رسالتي.
ولعلها آخر رسالاتي إليك.
قد سُطر على جبين الزمان قدرًا أن أهواك، وأحيا ربيعًا دائمًا في عينيك.
على غير ميعادٍ أتاني رسول هواك، ينسج من الأنفاس قصة هواي، ويقصها عليك.
حينما تقابلنا، ذاب كلانا عشقًا في الآخر، تحدينا قوى الطبيعة، وقوانين السماء، كي أسكن بين جنبيك.
ومالي في هواك حيلة، سوى العشق، ممزوج بسيلٍ من البكاء، يحملني إليك.
وكأني أقرأ غيبًا أني سأموت قهرًا لبعدك، وهذه نهاية تكتبها بيديك.
أتاني “ليل” ذات يوم، وأخبرني: أن زواجنا يستحيل، وأنه سيحطم كل شيء يقربني إليك.
وعليّ أن ابتعد، وأهجر المجرة، وأغادر كل كوكب تطأه بقدميك.
لكني لن يبعدني عنك سوى موتي، وحتى الموت لن يبعدني عنك، ستفر روحي إليك.
حبيبتك: “سيما”
تُرى هل سينجح حب قمر وسيما في اختراق القوانين السماوية؟
هل سيتزوجا، ويعلنا الحرب على هذه القوانين، ويخرج قمر عن طوع أبيه، ويفقد صولجان السلطة؟
تلك قصة تترنح أحداثها وتتمايل مابين الظلام والنور، وكأن ضي النجمة هو دمعها الصامت، حين يرتطم بقسوة القوانين.
وهذه الرسالة كتبتها “سيما،” كي ترسلها ل”قمر،”وتخبره فيها بكل شيء، إلا أن يد القدر كانت أسرع في أن تخط السطور الأخيرة من الرواية
وترامت أنفاس سيما بين أسطر الرسالة، وفارقت سيما الحياة في هدوء، ورحلت قهرًا، وظلت رسالتها مطوية.
وظل النداء الأخير بأحرف الرسالة، عالقًا بين طيات السحاب، وكأن مصير الرسالة قدرًا أن تقع بين يدي الشهب والنيازك، فيحترق جسد الكلمات.
إلا أن القدر كان له رأي آخر، فبعد أن ذاع نبأ موت سيما المفاجيء، كاد قمر أن يجن جنونه، وصار سجين الحزن، أسير المرض.
وخيم الحزن على كل سكان المجرة، حتى أن ليالي النجمات اتشحت بالسواد، فالجميع كانوا يعشقون سيما.
وظل قمر على هذه الحال لعدة أشهر، فاقد الوعي، وكأنه يعلن راية عصيانه للحياة دون حبيبته.
إلى أن جاء يوم تتويج ملكات النجمات العالمي، في مسابقة الجمال، والتي كانت تعد له سيما
قبل أن تغادرها الحياة.
ونهض قمر، ليحضر هذا اللقاء، بعد أن شعر بقليلٍ من التعافي، وأثناء استقلاله الضوء، لمح بعينيه شيئًا يلمع بين طيات السحاب.
وشعر وكأنما شيئًا ما يحدثه، يجذبه إليه، يناديه، وكأنه روح سيما الخالدة في طبقات السماء.
وهم قمر ليستكشف الأمر، وإذ به يجد رسالةً مطوية من حبيبته سيما، فأخذ يقرأ كلمات الرسالة، وكأن دمعه يشاركه القراءة.
ويسرع لتقبيل أحرفها، واحتضان وجنتيها، وكأن الدمعات حتى تشتاق لكلمات سيما.
لكن القدر لم يمهل قمر حتى يفصح عن صدى مكنون هذه الرسالة، ويبين لنا ردة فعل قمر تجاه والده.
فلقد كانت الثواني الأخيرة هي خط النهاية لحبيب لم يتحمل الحياة دون محبوبته، فقد أصيب قمر في حادث سير مروع، أودى بحياته.
وتقطرت أنفاس قمر الأخيرة دمًا ينزف، حاضنًا أحرف الرسالة، وكأن قطرات الدم هذه هي الستار الذي يسدل على أحداث تلك الرواية.
والتي تخط بذلك النزيف أحرف الخلود، خلود قصة الحب التي روت دماؤها نبض السماء.
ولقد كان موت قمر بمثابة رسالته لسيما، وكأنه يجيب من خلالها عليها، ألا بقاء له في الحياة بدونها.
وظلت قصة حب سيما وقمر عالقة على جدران الزمان، مخطوطة على أزقة السحاب.
لم تمت سيما، بل ستظل روحها خالدة، تخبيء بين أبواب السماء قصائد عشق حية، تكتب كل ليلةٍ، ميلاد نجمٍ جديد.
نجم عاشق في عين السماء.
قد يرى البعض أن حب قمر وسيما قد انهزم، لكني أرى أنه انتصر، وعاش بقلبيهما، وخلد وقعه، فكلا الحبيبين مات تترًا.
وهذا معناه قوة الهوى، فلا يقوى أحد منهم على أن يحيا دون الآخر، حتى وإن تعالت أصوات العذاب في الأحرف المسطرة بدرب الهوى، بين هجر، ولقاء.