مقالات

بوتين وترامب .. مكالمة أعادت رسم ملامح الحرب والسلام

✍️ يوحنا عزمي

بعد قمة ألاسكا التي جمعت ممثلي الولايات المتحدة وروسيا لمناقشة أزمة الحرب الأوكرانية ، بدا واضحاً أن العالم يقف أمام مرحلة جديدة من التحولات السياسية والدبلوماسية ، فخلف الأبواب المغلقة التي خيم عليها  التوتر والتوجس ، استطاع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن يُعيد بمهارته المعهودة ترتيب أوراق المواجهة مع نظيره الأمريكي دونالد ترامب ، مستخدمًا مزيجاً من الحنكة والهدوء والدهاء الذي طالما ميز أسلوبه في إدارة الأزمات.

في مكالمة هاتفية طويلة جرت بين الزعيمين مساء الأمس واستمرت لأكثر من ساعتين ، نجح بوتين في امتصاص غضب ترامب وتهدئة انفعالاته ، محولًا الحديث من لغة التحدي إلى لغة البحث عن حلول واقعية توقف نزيف الحرب في أوكرانيا ، وتعيد التوازن إلى العلاقات بين البلدين اللذين أنهكتهما سنوات من الصراع غير المباشر.

وخلال المكالمة ، ناقشا تأثير الحرب على مصالحهما المشتركة ، وإمكانيات إنهائها عبر تسوية تضمن لكل طرف  ما يمكن اعتباره نصراً سياسياً يحفظ ماء الوجه أمام الداخل والخارج.

وعقب انتهاء الاتصال ، خرج الرئيس الأمريكي ليعبر عن ارتياحه الشديد لنتائج النقاش ، معلناً عن إتفاق مبدئي لعقد قمة ثنائية جديدة بينه وبين الرئيس الروسي خلال الأسبوعين المقبلين في العاصمة المجرية بودابست ، على أن يسبقها لقاء تمهيدي بين وزيري خارجية البلدين لتنسيق المواقف وترتيب التفاصيل.

وكان لافتاً في تصريح ترامب نبرته الهادئة التي غابت عنها لغة التهديد المعتادة ، وكأنه وجد في بوتين ما لم يجده في ساسة أوروبا ، حوارًا متوازنًا يتيح له أن يتراجع دون أن يبدو متراجعًا.

المؤشرات، هذه المرة، تبدو أكثر إيجابية من أي وقت مضى، إذ تشير التسريبات إلى أن ترامب يستعد للإعلان عن تعليق قراره السابق بتزويد أوكرانيا بصواريخ “توماهوك” الأمريكية الهجومية، التي كان قد سمح باستخدامها لاستهداف العمق الروسي. وجاء هذا التحول بعدما برر ترامب موقفه الجديد بحجة احتياج الولايات المتحدة إلى الحفاظ على مخزونها المحدود من هذه الصواريخ للدفاع عن أمنها القومي، مؤكدًا أن استخدامها في نزاع خارجي قد يعرض أمن بلاده للخطر. لكن المراقبين رأوا في هذا التبرير رسالة مبطنة موجهة إلى موسكو، تحمل في طياتها نية واضحة لخفض التصعيد ، وتشجيع روسيا على إظهار قدر من المرونة في المفاوضات القادمة.

وهكذا بدا ترامب ، مرة أخرى ، على طبيعته المتقلبة ، رئيساً لا يثبت على موقف، يلوح بالقوة صباحًا ثم يدعو إلى الحوار مساءً، يهاجم بوتين في خطاب، ثم يمتدحه في اللقاء التالي، لكنه في كل مرة يظهر وكأنه يمارس لعبة السياسة بطريقته الخاصة، من موقع قوة لا من موقع ضعف. فهو يرى في هذه التقلبات دليلًا على مرونته وقدرته على إدارة الصراع بذكاء، ويعتبرها وسيلة لإظهار نفسه كرجل سلام قادر على إنهاء الحروب لا إشعالها. وقد عبر بنفسه عن هذا التوجه حين قال في حديثه الأخير إن الوقت قد حان لأن توقف روسيا حربها في أوكرانيا التي أودت بحياة أكثر من مليون ونصف المليون من شبابها ، وهو رقم صادم تجنبت موسكو الرد عليه أو التعليق ، حفاظًا على تماسكها الداخلي وتجنباً لإثارة الشكوك حول مصداقية المعلومات التي استند إليها ترامب.

أما بوتين ، فكان كعادته متزنًا وهادئًا ، يتحدث ببرود استراتيجي يحسب كلماته كما يحسب خطواته العسكرية على رقعة الشطرنج. أكد أن تزويد أوكرانيا بصواريخ “توماهوك” لن يغير شيئًا من واقع الميدان ، وأن روسيا ما تزال في موقع التفوق الاستراتيجي ، لكنه حذر من أن مثل هذه القرارات قد تلحق ضررًا بالغًا بالعلاقات الأمريكية الروسية، وهو ما لا يريده ولا يسعى إليه.

كان صوته يحمل ثقة المنتصر وعقلانية رجل الدولة، وقد بدا واضحًا أن كلماته لاقت صدى إيجابيًا لدى ترامب، الذي خرج بعدها أكثر ميلًا للتفاهم وأقل اندفاعًا نحو التصعيد.

تلك الساعات القليلة التي أعقبت المكالمة كانت كافية لتبدل المزاج السياسي الدولي ، فبعد أن كانت الحرب الأوكرانية تبدو في طريقها إلى جولة جديدة من التصعيد ، أخذت الأجواء تميل نحو التهدئة الحذرة. الأنظار تتجه الآن إلى القمة المرتقبة في بودابست ، حيث يتوقع المراقبون أن تشهد انفراجة حقيقية في مسار الأزمة ، وربما تشكل خطوة أولى نحو اتفاق يضع حدًا نهائياً لأطول حرب استنزاف شهدها العالم في العقد الأخير.

ما يجري الآن ليس مجرد تراجع تكتيكي في قرار عسكري، بل تحول في فلسفة المواجهة ذاتها ، من منطق الردع إلى منطق المصلحة. وربما يكون ما حدث في مكالمة الأمس هو بداية صفحة جديدة تُكتب بلغة مختلفة ، لغة تدرك أن الحروب مهما طال أمدها تنتهي على الطاولة لا في الميدان.

وإذا صدقت النوايا هذه المرة ، فإن قمة بودابست قد تفتح الباب أمام عهد جديد من الواقعية السياسية، حيث لا غالب ولا مغلوب ، بل مصالح تتقاطع لتصنع سلامًا هشاً.. لكنه سلام على أي حال ، وهذا ما نرجوه للعالم ، وما نتمناه قبل كل شيء.

هل ترغب يا يوحنا أن أجعلها بصيغة مقال افتتاحي وكأنها نُشرت في جريدة (مثل الأهرام أو الشرق الأوسط)، مع توقيعك في النهاية؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!