ابداعات

المناضل المثال

 

 

أحمد المقدم

 

 

لا أؤمن بتناسخ الأرواح، فهذا كفرٌ بواح بمنطق العقل. فالروح إما أن تظل في الجسد، تؤول لصاحبها، تظل كلما ظل الأجل، أو إنها تروح في حيز ميتافيزيقي، وقد انتهت حدود معرفتنا ولم ترسُ يومًا على برٍّ، فكان هو المجهول المطلق. ولكن العقل قد آمن منذ زمن بتناسخ الأقدار، حتى شُبِّهَ لي أنني هو ذاته، رغم أن أبعاد المكان والزمان والصراع قد تمايزت، ولكني أظل هو ذاته.

 

لا يتطلب الأمر أن آتي في صدر عناوين الصحائف أو في عجزها، كي يتفطن عقلي إلى أنني أحمل من إرثه ما يجعلني مناضلًا مثله، بل حتى قد أورثت لحيته المبعثرة التي تُضفي على قسمات وجهه المزيد من التمرد. والغريب أنني كنت يومًا في أحد الأماكن موضوعًا للتندر والفكاهة بين أصحابي، الذين كانوا ينادونني باسمه لوثاقة الصلة بين لحيتي ولحيته.

 

ولكني لم أتوقع أن يبلغ قدري هذا الحد من التشابه مع قدره. ولكني أدركت أن أقدارنا يحددها إرادتنا، وما يُشكله الناس من حولنا من قيود لا تحتاج سوى إلى متمرد يكسرها. إنني وذاك المناضل في الصراع كفرسيّ رهان.

 

فقد قاتل هو من أجل بسطاء كوبا وعوامهم، ممن احتضنتهم إرادته كعشيرته وأهله وخاصته. لقد آمن بقضية لا يؤمن بها من يؤمن، حتى يبذل في سبيلها ما يبذل، وتصير حياته من دون تحقيقها قيدًا لا يسكره سوى الموت. ومن أجلها ذهب إلى منيته، لأنه قد رأى في عين ذلك الراعي، الذي كان من أهله، أهله وعشيرته الذين لم يكونوا سوى مجرد فانتازيا عاشها هو فقط، عندما أسلمه الراعي لغاصب حريتهما، بعدما رأى أن رصاص الحرية قد أهال أغنامه، فلم تعد تدرّ لبن المذلة الذي استساغ طعمه دون الحرية.

 

قال الدون كورليوني، الأب الروحي: إن الرجل الذي لا يقضي وقتًا مع عائلته ليس رجلًا حقيقيًا. ربما لأنه قد نأى بنفسه بعيدًا عن هالة الحب المقدسة، فكان عليه أن يعود لهؤلاء الذين ينتظرونه، والشوق إلى احتضانه قد جعلهم يصطفون وراء الباب ينتظرون اصطكاك مفتاحه في قفل الباب، حتى يُفتح فيعانق الجميع داخل ذراعيه.

 

ولكن ثمة أمر مغاير الآن، وكأن لدى الأمس ازدواجية في معايير تشابهه مع البارحة. لم أعد أرى البارحة في عيون الأمس. لن يأتي من يفتح الباب بعد الآن، ولم يعد الجميع يصطف خلف الباب.

 

قد شدّت الحياة وثاق الجميع بقيود الظروف، أما هو فقد لاذ بالفرار منذ أمد، بعد أن نعى الراحل. وقد حاول جاهدًا في سنوات أن يحرر الجميع من قيود الأسر، ولكن كان عليه أن يعرف أن “الجميع” هو الراعي، وأنه هو المناضل الأحمق، جيفارا. وأن الحرية فانتازيا لا يعيشها إلا من ارتضى صلف العيش بها دون نعيم القيود… قيود الظروف.

 

جيفارا مات،

جيفارا مات،

آخر خبر في الراديوهات،

وفي الكنائس،

والجوامع،

وفي الحواري،

والشوارع،

وع القهاوي، وع البارات.

جيفارا مات،

جيفارا مات،

واتمدّ حبل الدردشة والتعليقات،

مات المناضل المثال،

يا ١٠٠ خسارة ع الرجال.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!