✍️ يوحنا عزمي
في الساعات الأخيرة انكشفت أمامنا سلسلة متشابكة من الوقائع التي تضع الشرق الأوسط مجددًا أمام منعطف خطير، حيث تتداخل السياسة بالدبلوماسية بالتحركات العسكرية، في لوحة واحدة لا يمكن قراءتها إلا باعتبارها محاولة لإعادة رسم الخرائط والسيطرة على المنطقة من جديد.
البداية جاءت من البيت الأبيض حيث أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن خطة لوقف الحرب في غزة، لكنها ظهرت في صيغة مفاجئة ومغايرة تماما لما كان يجري الحديث عنه مع العواصم العربية سابقا. بدلاً من أن تكون مدخلًا لإنهاء الاحتلال والشروع في خطوات جدية نحو حل الدولتين، خرجت الخطة مجرد وقف مؤقت للقتال، انسحاب تدريجي للجيش الإسرائيلي حتى حدود منطقة عازلة، تبادل أسرى وفق مهلة صارمة ، ثم نزع سلاح المقاومة وتفريغ الأنفاق والمصانع ، وإحلال لجنة تكنوقراطية فلسطينية تعمل تحت إشراف هيئة دولية جديدة أطلقوا عليها “مجلس السلام”، يتولى رئاسته ترامب بنفسه ويعاونه توني بلير ، الرجل الذي ارتبط اسمه بغزو العراق سنة 2003.
هذه الصياغة لا تحمل ملامح سلام بقدر ما تمثل وصاية مباشرة على القطاع، وتجعل من غزة مختبرًا جديدًا لإعادة الاستعمار بشكل رسمي وعلني.
المفارقة أن إسرائيل نفسها لم تلتزم بتفاصيل هذه الخطة، فنتنياهو خرج بعدها مباشرة ليؤكد أن بلاده لن تقبل بقيام دولة فلسطينية ولن تنسحب من معظم أجزاء القطاع، ما يعني أن المقاومة إن سلّمت أوراق قوتها، ستجد نفسها أمام عدو يستأنف حربه بلا رادع ، فيما يكون قد تخلص من ضغط الأسرى ومن السخط الداخلي.
الموقف الفلسطيني لم يُحسم بعد ، غير أن تصريحات قيادات من بينها أمين عام حركة الجهاد الإسلامي أوضحت رفضًا مبدئياً ، معتبرة أن القبول بهذه الشروط يعني الإعتراف بالهزيمة ، وهو ما قد يجعل الخطة محكومًا عليها بالفشل منذ البداية.
في الوقت نفسه كانت طهران تتحرك بشكل لافت ، حيث تحدثت تقارير عن أن الحرس الثوري الإيراني ينفذ أكبر عملية تعبئة داخلية في تاريخه، ناقلًا صواريخه الباليستية إلى مواقع محصنة تحت الأرض بعمق يصل إلى خمسين مترًا، استعدادًا لمواجهة محتملة. هذه التحركات ترافقت مع مؤشرات على استعداد أمريكي موازٍ ، إذ رُصدت طائرات تزويد وقود وقطع جوية متقدمة تتحرك من قواعد بعيدة نحو الخليج ، بما يشير إلى سيناريو حرب وشيكة أو على الأقل إلى مرحلة استعراض قوة غير مسبوقة.
الأصداء لم تقتصر على الميدان، بل انعكست على الأسواق العالمية مباشرة، فارتفعت أسعار الذهب لمستويات قياسية بينما تراجع الدولار، في إشارة واضحة إلى أن المستثمرين يتهيأون لاحتمال اندلاع نزاع كبير.
وعلى شاطئ المتوسط يلوح مشهد آخر لا يقل خطورة : أسطول الصمود المتجه نحو غزة أصبح على وشك مواجهة مباشرة مع البحرية الإسرائيلية التي تلقت أوامر بمنع وصوله إلى أي مدى وبأي ثمن، بما في ذلك سحب السفن إلى موانئ الاحتلال أو حتى إغراق بعضها في عرض البحر.
هذا التحرك إذا جرى بالفعل أمام أنظار العالم سيكون بمثابة رسالة دموية ، ويعيد للأذهان حوادث سابقة دفعت الرأي العام الدولي نحو إدانات واسعة.
أما أكثر التطورات إثارة للرعب فجاء من باريس، حيث عُثر على سفير جنوب إفريقيا في فرنسا، أحد أبرز المدافعين عن قضايا محاسبة إسرائيل أمام المحاكم الدولية، جثة هامدة بعد سقوطه من الدور الثاني والعشرين في فندق فاخر.
التحقيقات الأولية لم تُجب عن سؤال جوهري: كيف سقط من نافذة قيل إنها مؤمنة بإحكام؟ وقبل ساعات من وفاته كان قد أرسل رسالة غامضة لزوجته ثم اختفى. أسلوب العملية وملابساتها دفع كثيرين لتوجيه أصابع الاتهام إلى الموساد ، الذي اشتهر بعمليات اغتيال مشابهة لإسكات الخصوم ، وكان اغتيال أشرف مروان في لندن بالطريقة ذاتها أحد أبرز الأمثلة. الرسالة هنا تبدو مزدوجة ، موجهة إلى جنوب إفريقيا التي تقود حملة قانونية ضد إسرائيل، وإلى فرنسا التي تحاول الدفع أوروبياً نحو الإعتراف بالدولة الفلسطينية.
الصورة العامة إذن تنبئ عن مشهد معقد : خطة سياسية غامضة تهدد بتحويل غزة إلى منطقة وصاية دولية يقودها ترامب، تعبئة عسكرية إيرانية ورد أمريكي قد يفتح الباب لحرب أوسع ، مواجهة بحرية محتملة مع أسطول تضامني، واغتيال دبلوماسي بارز في قلب باريس.
كل ذلك يطرح أسئلة خطيرة : هل نحن أمام إعادة إنتاج لاتفاقيات استعمارية جديدة على طريقة سايكس – بيكو؟
هل يتحضر العالم لحرب إقليمية كبرى ستعيد تشكيل الشرق الأوسط من جديد؟ الإجابات ما زالت غامضة ، لكن المؤكد أن الساعات والأيام المقبلة قد تحمل أحداثاً ستغير وجه المنطقة لعقود قادمة.