مقالات

إيران بين النزيف والتحول: لحظة الإختبار الأخيرة لدولة تحت الضغط

✍️ يوحنا عزمي

لو نظرت إلى إيران من مسافة بعيدة ستراها دولة محاصرة، تتقاطع حولها العقوبات والضغوط والتهديدات، وتبدو ككيان يعيش في عزلة إجبارية عن العالم. وإذا اقتربت قليلًا ستكتشف نظاماً سياسياً واقعاً تحت ضغط هائل، محاصراً داخلياً بالاحتجاجات والضيق المجتمعي ، وخارجياً بالصراعات الإقليمية والحصار الدولي.

لكن حين تنظر بعمق ، وتغوص أبعد من المشهد السطحي، ستكتشف أن الصورة أخطر بكثير من مجرد حصار أو أزمة عابرة ، لأن إيران تقف اليوم عند آخر نقطة توازن قبل التحول الكبير. ليست على حافة سقوط وشيك ، ولا على أبواب نصر استراتيجي ، بل في تلك المنطقة الرمادية القاسية التي تقف فيها الدول عندما تُجبر على إعادة اختراع نفسها من جديد ، أو تواصل السير وهي تنزف ببطء إلى أن يأتي التاريخ ليحسم مصيرها بدلًا عنها.

ما يحدث داخل إيران في هذه اللحظة لا يمكن اختزاله في ملف سياسي ، ولا في أزمة نووية ، ولا حتى في عقوبات اقتصادية. ما يجري هو اختبار بقاء شامل لدولة كاملة، اختبار لقدرتها على التكيّف مع عالم تغير بسرعة بينما بقيت بنيتها الذهنية والسياسية معلقة في زمن آخر.

فالتاريخ ، الذي نادرًا ما يخطئ في قواعده الكبرى ، يقول بوضوح إن الإمبراطوريات لا تسقط فقط لأنها محاصرة، بل لأنها تفشل في التحوّل عندما يصبح التحول ضرورة وجودية. وإيران اليوم وصلت إلى تلك اللحظة الإجبارية التي لا يمكن القفز فوقها أو تأجيلها إلى ما لا نهاية.

منذ عام 1979 لم تُبن إيران كدولة طبيعية بالمعنى الحديث للكلمة ، بل تأسست كمشروع أيديولوجي ورسالة ثورية مستمرة ، دولة تعرف نفسها باعتبارها فكرة قبل أن تكون عقدًا اجتماعيًا بين سلطة ومجتمع. هذا الاختيار منحها قوة أمنية وتنظيمية هائلة ، لكنه في الوقت نفسه زرع في قلبها تناقضًا خطيرًا.

فالدولة الحديثة تحتاج إلى الاستقرار، وإلى مؤسسات مرنة، وإلى تداول للسلطة، وإلى قدرة على التكيف مع التحولات الاجتماعية والاقتصادية. أما الثورة ، بطبيعتها، فتعيش على التعبئة الدائمة ، وتحتاج إلى عدو مستمر ، وتغذي نفسها بالتوتر والمركزية والصراع المفتوح. محاولة الجمع بين الدولة والثورة أنتجت كياناً شديد الصلابة أمنياً، لكنه مرهق اجتماعياً، متعب نفسياً، ومشدود الأعصاب على مدار الوقت.

اقتصادياً ، ليست إيران دولة فقيرة بالمعنى التقليدي. فهي تمتلك النفط والغاز ، وتمتلك قاعدة بشرية كبيرة ومتعلمة، ولديها موقع جغرافي استثنائي كان يمكن أن يحولها إلى عقدة اقتصادية كبرى في المنطقة. لكن المشكلة القاتلة أن اقتصادها مخنوق سياسيًا، محاصر من الداخل قبل الخارج. الدولة تسيطر على مفاصل السوق، والحرس الثوري متغلغل في قطاعات اقتصادية واسعة ، والاستثمار الأجنبي شبه غائب ، والعملة فقدت ثقة الناس، والقطاع الخاص عاجز عن النمو الحقيقي. النتيجة اقتصاد يعمل لكنه لا يتقدم، ينتج لكنه لا يفتح أفقًا، وهو وضع أخطر من الانهيار الكامل، لأن الإحباط فيه يتراكم ببطء وصمت ، حتى يصل إلى نقطة انفجار مفاجئة يصعب احتواؤها.

أما المجتمع الإيراني ، فهو القنبلة الأخطر في هذه المعادلة المعقدة. أغلبية الإيرانيين اليوم وُلدوا بعد الثورة، لم يعرفوا عهد الشاه ، ولم يعيشوا سردية العدو القديم ، ويرون العالم يوميًا من خلال هواتفهم وشاشاتهم.

هذا الجيل ليس بالضرورة معاديًا للدين ، ولا عميلًا للغرب كما يُصوَّر أحيانًا ، لكنه ببساطة يرفض أن تقرر الدولة تفاصيل حياته اليومية، ويرفض أن تتحكم السياسة في خياراته الشخصية ومستقبله الاقتصادي والاجتماعي. هنا يتآكل أخطر أنواع الشرعية، وهي الشرعية النفسية. وعندما تفقد السلطة هذا الرابط النفسي مع مجتمعها، لا السلاح قادر على استعادته، ولا القمع يملك القدرة على ترميمه ، بل قد يسرّع فقط من انهياره.

في هذا السياق المعقد يأتي الملف النووي، الذي تراه إيران شبكة أمان في عالم قاسٍ لا يرحم الضعفاء. فهي استوعبت دروس القرن الحادي والعشرين جيدًا ؛ العراق سقط حين تعرى ، وليبيا انتهت عندما سلمت أوراق قوتها ، وكوريا الشمالية تُركت وشأنها عندما أصبحت مصدر تهديد. لذلك لا تنظر طهران إلى النووي كزر حرب ، بل كمظلة تمنع الضربة. لكن المفارقة المؤلمة أن كل خطوة تقترب فيها من هذه المظلّة تزيد الضغوط عليها، وترفع مستوى الخطر، وتضيّق مساحة المناورة. النووي يحمي النظام من السقوط السريع، لكنه في الوقت نفسه يحبسه داخل زاوية ضيقة تزداد اختناقًا مع مرور الوقت.

وعلى الجانب الإقليمي ، تقف إسرائيل باعتبارها الصدام المؤجل الذي لا يمكن إلغاؤه. فإسرائيل ترى في إيران تهديدًا وجوديًا طويل المدى ، لا مجرد خصم تكتيكي ، بينما ترى إيران في إسرائيل رأس الحربة في حصارها ورمزًا لإذلالها الإقليمي. الطرفان يدركان أن الحرب المباشرة ستؤدي إلى انفجار إقليمي واسع، وتحطيم اقتصادات، وخروج معادلات كاملة عن السيطرة. لذلك تدور المعركة الآن تحت العتبة، عبر اغتيالات، وهجمات سيبرانية، وضربات محدودة، ورسائل نارية محسوبة. لكن التاريخ يخبرنا أن الحروب المؤجلة نادرًا ما تُلغى بالكامل، وغالبًا ما تنتظر فقط ظرفًا أكثر ملاءمة للانفجار.

وسط كل ذلك، يبرز ملف المياه كأخطر تهديد صامت تواجهه إيران. جفاف متصاعد، تراجع زراعي، هجرة داخلية، مدن تعاني العطش، وتوترات متزايدة بين الأقاليم. هذا الملف لا يثير ضجيجًا سياسيًا كبيرًا، لكنه يضرب في عمق بقاء الدولة. فلا يوجد نظام سياسي في التاريخ استطاع أن يصمد طويلًا وشعبه يعاني العطش. المياه هنا ليست قضية بيئية أو تنموية، بل مسألة حياة أو موت، وسياسة بقاء بمعناها الحرفي.

في المحصلة، إيران ليست دولة على وشك السقوط المباشر، لكن وضعها أخطر من ذلك بكثير. هي دولة مرهَقة، محاصَرة، فاقدة للمرونة ، ومضطرة إلى الاختيار. الاختيار الحقيقي ليس بين الصمود أو الانهيار، بل بين تحول مؤلم يتم بإرادة واعية، وتحول أعنف يُفرض تحت ضغط لا يرحم. والتاريخ لا يُجامل الدول التي تتأخر في اتخاذ قراراتها المصيرية.

ربما المستقبل لا يزال مفتوحًا على احتمالات عديدة، لكن المؤكد أن إيران لا تعيش أزمة عابرة ولا صراعًا مؤقتًا. إنها تقف داخل مفترق تاريخي ثقيل، طريقاه كلاهما مكلف، وثمنهما باهظ. وأخطر لحظة في عمر الدول ليست لحظة سقوطها، بل اللحظة التي تكتشف فيها أنها مضطرة للتغيّر، ولا تعرف من أين تبدأ. من يتأمل هذا المشهد بعمق لا يقرأ مجرد تحليل سياسي، بل ينظر داخل عقل دولة تحاول أن تقرر مصيرها قبل أن يقرره الآخرون عنها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!