شريف جلال القصاص
الإبداع الحقيقي لا يُشترى، ولا يُمنَح في كليات الفنون ولا المعاهد الأدبية، لا يقدم كمنحة دراسية من جامعات مرموقة، ولا يُصقل في مؤتمرات وندوات. إنه لا يعرف النظام، ولا يزدهر في المكاتب المكيفة ذات الجدران البيضاء والروتين الصارم. الإبداع يُولد في العتمة… حين يصرخ العقل في صمت، ويغوص القلب في هاوية فقدان الغاية.
ينبت بين شقوق الأرواح المتعبة، ويترعرع بين أنقاض الأحلام المهدمة، في تربة سُقيت بالخذلان،
ليس غريبًا إذن أن نجد الإبداع في “الفيل الأزرق”، في رحلة عقل يتهشم تحت وطأة الذنب، ويهرب من واقعه عبر حبوب تُعيد ترتيب الوعي. او أن نراه في “الجنيّة الخضراء”، تلك الأسطورة التي اجتمعت فيها العلم و الخرافة، اليقين والسراب، الإلهام ووساوس الشياطين.
فبين الهلوسة والرؤية، بين الحقيقة والوهم، يولد الإبداع الحقيقي… ذاك الذي لا يطلب الإذن كي يتنفس، ولا يحتاج تصريحًا كي يقول ما لم يجرؤ الآخرون على التفكير فيه.
الإبداع لا يأتي لمن يحيا في منطقة الأمان، بل يهب نفسه لمن تجرّأ على الاقتراب من حافة الجنون… لمن اختبر الفقد، والمواجهة، والانكسار، ثم نهض لقيامة، وبعث، ليكتب، أو يرسم، أو يخلق ما لم يكن موجودًا من قبل.
فان جوخ، أحد أعظم الرسامين في التاريخ، عاش سنوات من الاكتئاب الشديد، رسم خلالها روائع مثل ليلة النجوم من داخل مصحة عقلية.
ونيكولا تسلا، الذي سبق عصره بعقود، كان يعاني من هوس رقمي ووسواس قهري، لكنه بالمقابل فتح نوافذ لعلوم لم تُفهم إلا بعد رحيله.
في عالم الأدب العربي المعاصر، تجلّت هذه الفكرة ببراعة في رواية الفيل الأزرق للكاتب المصري أحمد مراد، التي صدرت عام 2012، ولاقت رواجًا كبيرًا لما فيها من غوص عميق في النفس البشرية.
تحكي الرواية قصة د. يحيى راشد، الطبيب النفسي الذي يعود إلى عمله في مستشفى العباسية، ليجد نفسه في مواجهة مع مريض صادم، يفتح له أبواب ماضٍ لم يُغلق، وأبوابًا أخرى أشد ظلمة… داخل نفسه.
ومع تطور الحبكة، يظهر “الفيل الأزرق”، وهو قرص هلوسة حقيقي مستوحى من مركب يُعتقد أنه يشبه عقار “DMT”، أحد أقوى المهلوسات المعروفة، يُعتقد أنه يلعب دورًا في الأحلام و تجارب الاقتراب من الموت، عند استخدامه بشكل صناعي، بقدرته على تحفيز تجارب هلوسة شديدة تُشبه العبور إلى عوالم وأبعاد أخرى.
تأثيره يبدأ سريعًا، ويستمر لوقت قصير مقارنة بالمواد المخدرة الأخرى، لكنه يترك آثارًا نفسية وعقلية عميقة. يُحدث للمتعاطي رؤى حية وتجارب خارجة عن نطاق الوعي الطبيعي.
لكن الغريب أن ما قدّمه مراد في قالب روائي خيالي، له ظل واقعيّ يمتد إلى قرون مضت، تحديدًا إلى أوروبا القرن التاسع عشر، حيث انتشر مشروب زمردي اللون يُدعى الأفسنتين، أو كما لقّبوه: “الجنية الخضراء”.
لم يكن الأفسنتين مشروبًا عاديًا، بل طقسًا فنيًا عند عدد من كبار الكتّاب والرسامين، كان يُعتقد أنه يفتح آفاقًا داخلية لا يمكن بلوغها في الحالة الطبيعية، تناوله فنانون مثل فان جوخ، الذي قيل إنه كان مدمنًا عليه.
لكن ما سر تأثيره؟
علميًا، الأفسنتين يحتوي على مادة تسمى الثوجون، وهي مركب طبيعي مستخلص من نبتة الشيح، تُصنف بأنها مادة سامة عصبيًا إذا تم تناولها بتركيزات عالية.
كانت هذه المادة، إلى جانب الكحول المرتفع بنسبة تتجاوز 70%، تؤثر على الجهاز العصبي وتسبب هلوسات بصرية وسمعية، وتجارب نفسية غير مألوفة.
ولهذا السبب، أصبح الأفسنتين رمزا للإلهام كما للدمار. قيل عن لوحات فان جوخ والتي ربما اعتمد في رسمها على هذا العقار الملهم، بإنها تنبض بالحياة عند النظر إليها تحت ضوء معين. وقيل إن من يحدق طويلًا في زجاجة الأفسنتين، يبدأ بسماع أصوات أو الشعور بأن هناك من يراقبه.
بل إن أساطير عدة نُسجت حول “لوحة مفقودة” تُدعى الجنية الخضراء، رسمها فنان مجهول تحت تأثير الأفسنتين ثم اختفى، وقيل إن من يشاهدها يدخل في حالة شبيهة بالحلم أو الهلوسة.
لكن مع الوقت، تكشف العالم العلمي عن حقيقة هذا المشروب، وبدأ الأطباء يلاحظون أن الاستخدام المستمر للأفسنتين كان مرتبطًا بنوبات من الهوس، الاكتئاب، العنف، بل والانتحار.
لذا، حُظر في معظم دول أوروبا مطلع القرن العشرين، بعد أن تبيّن أنه لم يكن مشروبًا ملهمًا كما اعتقد البعض، بل مزيجًا خطيرًا من السموم والهلاوس.
وحين نفيق من تأثير ذلك الحوار الغامض، يظهر السؤال:
هل نحن بحاجة إلى “وسيط خارجي” ليوقظ الإبداع فينا؟
هل يجب أن نمرّ بحالة نفسية متطرفة، أو نتعاطى مواد تفتح لنا أبواب الخيال؟
في زمننا هذا، لا تزال بعض الدراسات تبحث في أثر مخدرات مثل السيلوسيبين على العلاج النفسي وتوسيع الإدراك.
وفي المقابل، يختار البعض أن يغوص في عوالم “الواقع الافتراضي” كوسيلة للهروب أو الإلهام.
ولا يزال كثير من الفنانين يفتشون عن “الشرارة المقدسة” في أقراص أو مشروبات أو أصوات غريبة.
لكن الحقيقة الواضحة عبر التاريخ، أن الموهبة لا تولد من السموم، النجاح لا يمر عبر صرح خادع من هلاوس المخدرات، وأوهام مواد كيميائية تستعبد الوعي.
العبقرية لا تحتاج إلى كأس… بل تحتاج إلى تجربة وفشل يعقبه نجاح، مشنقة يتأرجح تحتها القديم، لاستحضار اشباح التفرد والابتكار.
الإبداع الحقيقي لا يباع، لا قرص “فيل أزرق”، ولا كأس من “الجنية الخضراء” سيمنحك موهبة.
الإبداع الحقيقي يبدأ حين تكتب رغم وجعك، ترسم رغم خوفك، وتخلق رغم فقرك.
حين تكتب عن شخصيات لا وجود لها، لكنك تراها، وتؤمن بها وتحاورها، وتمنحها صوتًا وإرادة وأملًا.
حين تبني عوالم من كلمات، وتطلق ألوانك في لوحة كأنك تكتب صلاة، تصل الألف وتنقله إلى المختلف
هذه هي “الجنيّة الخضراء” الحقيقية.
لا تُسكب في كأس، بل تُستخرج من الداخل، من عمق التجربة، من شجاعة أن تواجه نفسك دون وسطاء.
فإذا أردت أن ترى الإلهام، فلا تبحث عنه في زجاجة، ولا تطارده في دخان… بل ابحث عنه في لحظة الألم التي قررت أن تحوّلها إلى قصة.
عزيزي المبدع في النهاية…
لا تصدق أن هناك طريقًا مختصرًا إلى العبقرية.
لا شيء يصنعك فنانًا سوى أن تواجه خوفك، وتكتب دون ضمان، وترسم دون تصفيق.
ولعل أقوى أبواب الإبداع… هي تلك التي لا تُفتح إلا حين تُغلق كل الأبواب الأخرى.
فامضِ، واكتب، وارسم، وأنت تُدرك أن العبقرية لم تكن يومًا في مادة…
بل في إنسان قرر ألا يهرب من نفسه، إلى اللامحدود والاممكن، ليجعله ممكنًا.