مقالات

هل تبدأ حرب عالمية محدودة من ثلاث جبهات؟

✍️ يوحنا عزمي 

يعيش العالم اليوم على صفيح ساخن ، تتزاحم فوقه الأزمات وتتقاطع فيه المصالح الكبرى ، حتى صار شبح الحرب يطل برأسه من أكثر من جبهة في وقت واحد.

لم يعد السؤال : “هل ستندلع حرب كبرى؟”، بل “أين ومتى ستبدأ الشرارة الأولى؟”. وبينما يتحدث البعض عن حرب عالمية ثالثة شاملة ، يذهب آخرون إلى تصور أكثر دقة : حرب عالمية محدودة ، تتوزع جبهاتها بين أوروبا الشرقية وبحر الصين الجنوبي والشرق الأوسط ، لتشكل شبكة صراعات متزامنة تقلب موازين القوة وتعيد صياغة النظام الدولي من جديد.

الجبهة الأولى : أوروبا الشرقية – صراع موسكو وواشنطن

منذ إندلاع الحرب الروسية ـ لأوكرانية في فبراير 2022، والعالم يعيش حالة من الترقب المستمر. ما بدأ كعملية عسكرية روسية محدودة ، تحول إلى أطول حرب أوروبية منذ الحرب العالمية الثانية. الغرب بقيادة الولايات المتحدة ضخ مليارات الدولارات في أوكرانيا ، وزودها بالسلاح والاستخبارات ، فيما أصرت موسكو على أن أوكرانيا “خط أحمر”.

السيناريو الأكثر خطورة هنا يتمثل في استخدام موسكو لسلاح نووي تكتيكي ضد أهداف عسكرية في أوكرانيا ، كرد على هجوم يهدد وجودها أو عمقها الأمني. عندها لن تستطيع واشنطن الصمت ، وسترد بشكل مباشر أو غير مباشر ، ما قد يفتح الباب لمواجهة محدودة بين روسيا وحلف الناتو. هذه المواجهة قد تبدأ بصواريخ فوق بحر البلطيق ، أو ضربات سيبرانية تشل البنية التحتية في أوروبا.

الجبهة الثانية : بحر الصين الجنوبي – تايوان كبوابة للحرب

الصين تعتبر تايوان جزءاً لا يتجزأ من أراضيها ، وتكرر على الدوام أن “إعادة التوحيد” مسألة وقت. في المقابل ، ترى الولايات المتحدة أن سقوط تايوان بيد بكين سيعني نهاية هيمنتها في المحيط الهادئ ، وانتصارًا رمزياً
للعالم متعدد الأقطاب.

الصراع هنا قد يبدأ بحصار بحري تفرضه الصين حول الجزيرة ، أو بإسقاط طائرات تايوانية في اشتباك جوي. الرد الأميركي قد يأتي عبر تدخل بحري مباشر ، ما يفتح الباب لمواجهة محدودة بين أساطيل بكين وواشنطن. الحرب هنا لن تكون برية واسعة ، بل حرب صواريخ وغواصات وطائرات دون طيار ، تضع العالم أمام تجربة عسكرية غير مسبوقة في سرعتها وقسوتها.

الجبهة الثالثة : الشرق الأوسط ـ بركان تحت الرماد

لا يحتاج الشرق الأوسط سوى لشرارة صغيرة لينفجر. العلاقة المتوترة بين إيران وإسرائيل ، والتي تغذيها حرب الظل المستمرة منذ سنوات ، مرشحة للتصعيد في أي لحظة. إيران تمتلك شبكة واسعة من الحلفاء : حزب الله في لبنان ، الفصائل المسلحة في العراق وسوريا ، وحركة حماس والجهاد الإسلامي في غزة. في المقابل ، تمتلك إسرائيل قوة عسكرية ضاربة ، ودعماً أميركياً ثابتاً.

السيناريو الأقرب يتمثل في ضربة إسرائيلية كبيرة ضد منشأة نووية إيرانية ، يتبعها رد إيراني عبر صواريخ باليستية أو هجمات على منشآت خليجية. عندها ، ستجد الولايات المتحدة نفسها مجبرة على التدخل المباشر لحماية حلفائها ، وربما ترد إيران باستهداف قواعد أميركية في المنطقة. هذا النوع من الصراع قد يظل “إقليميا” في بدايته ، لكنه سرعان ما قد يتحول إلى حرب ذات بعد دولي إذا تدخلت روسيا أو الصين لموازنة الكفة.

حرب عالمية بلا إعلان رسمي

المثير أن هذه السيناريوهات لا تشترط إعلان “حرب عالمية ثالثة” بالمعنى التقليدي. لن نرى معسكراً للحلفاء مقابل معسكر للمحور كما في القرن الماضي. بل ما قد يحدث هو حرب متعددة الجبهات ، تشترك فيها القوى الكبرى عبر وكلاء أو تدخلات مباشرة ، دون إعلان رسمي.

نحن أمام حرب “موزعة”:

في أوروبا ، روسيا ضد الناتو.

في آسيا ، الصين ضد أميركا وحلفائها.

في الشرق الأوسط ، إيران ضد إسرائيل والخليج ، مع تدخل أميركي.

كل جبهة ستشتعل لأسبابها الخاصة ، لكنها ستتشابك    مع الأخرى عبر الاقتصاد والطاقة والتحالفات.

المخاطر الاقتصادية والإنسانية

قد تكون الكارثة الأكبر ليست في القتال نفسه ، بل في تداعياته الاقتصادية :

تعطل طرق التجارة العالمية ، خصوصاً في البحر الأسود وبحر الصين الجنوبي.

قفزات هائلة في أسعار النفط والغاز ، قد تدفع أوروبا وآسيا إلى ركود اقتصادي طويل.

أزمة غذاء عالمية ، نتيجة توقف تصدير القمح الأوكراني والروسي، واضطراب سلاسل التوريد في آسيا وإفريقيا.

انهيار أسواق المال ، وتضخم غير مسبوق ، ينعكس على حياة المليارات حول العالم.

حتى لو بقيت الحرب “محدودة” عسكرياً ، فإن نتائجها الاقتصادية والإنسانية ستكون شاملة ، وربما أخطر من الحروب التقليدية.

سيناريو متخيل : الشرارة الأولى

تخيل المشهد :

خريف 2025، أوكرانيا تنفذ هجوماً ناجحاً بدعم غربي على جزيرة القرم.

روسيا ترد باستخدام سلاح نووي تكتيكي لأول مرة منذ 1945.

الناتو يرد بضربة صاروخية محدودة ضد قواعد روسية خارج موسكو.

في اللحظة ذاتها ، الصين تفرض حصاراً بحرياً حول تايوان ، فتدخل الولايات المتحدة في مواجهة بحرية مباشرة.

وفي الشرق الأوسط ، تستغل إيران انشغال العالم لتصعيد كبير ضد إسرائيل عبر حزب الله.

هكذا ، دون إعلان رسمي ، يجد العالم نفسه أمام حرب عالمية محدودة ، بثلاث جبهات متزامنة ، تختلف في طبيعتها لكنها تتقاطع في نتائجها.

قد تبدو هذه السيناريوهات قاتمة ، لكن قراءة الوقائع بعيون باردة تكشف أننا أمام لحظة فارقة في تاريخ البشرية. الحرب العالمية المحدودة إن وقعت ، لن تحتاج إلى إعلان رسمي ولا إلى تحالفات معلنة ، بل ستولد من تراكم أخطاء صغيرة واندفاعات كبرى.

السؤال الحقيقي ليس ما إذا كان العالم قادراً على تجنبها ، بل ما إذا كان يملك الشجاعة الكافية لوقف نفسه قبل أن يسقط في هاوية يعرف الجميع بدايتها ولا يعرف أحد نهايتها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!