✍️ يوحنا عزمي
لم يكن إعلان إسرائيل وقف صفقة الغاز مع مصر مجرد قرار اقتصادي عابر ، كما حاول الإعلام الرسمي في تل أبيب أن يُسوقه ، بل هو خطوة مدروسة بعناية ، تحمل رسائل أبعد بكثير من حدود الطاقة والمال. في عمقها ، هي رصاصة تحذير في قلب معاهدة السلام، وإشارة إلى أن تل أبيب باتت تستخدم مواردها الاستراتيجية كسلاح للضغط السياسي ، لا يقل خطورة عن الطائرات والدبابات.
منذ توقيع اتفاقية السلام في كامب ديفيد ، ظل الاقتصاد وخاصة ملف الغاز يمثل “العمود الهادئ” للعلاقة المصرية – الإسرائيلية ، وهو ما وفر للطرفين هامشاً من الاستقرار في لحظات الاضطراب السياسي. لكن تجميد الصفقة الآن يعكس انقلاباً في قواعد اللعبة : إسرائيل لم تعد ترى نفسها ملزمة بتقديم مكاسب اقتصادية لمصر مقابل استمرار السلام ، بل باتت تتعامل من موقع القوة ، مستخدمة الغاز كسيفٍ مسلط على القاهرة.
الرسالة واضحة : “إما أن تنسجموا مع أولوياتنا في المنطقة .. أو سندفعكم اقتصادياً نحو الزاوية”.
والتوقيت لم يأتِ صدفة. فتل أبيب تعلم أن القاهرة تواجه تحديات داخلية ضاغطة : أزمة عملة ، نقص في موارد الطاقة ، ومفاوضات قاسية مع مؤسسات التمويل الدولية.
وبالتالي ، فإن خنق شريان الغاز يعني إشعال جرس إنذار سياسي واقتصادي في آن واحد.
الأخطر أن هذا القرار يُمكن قراءته كجزء من استراتيجية إسرائيلية أوسع ، بدأت بالضربة الجريئة في قطر ، وتمر عبر محاولات إعادة رسم موازين القوى في شرق المتوسط.
إسرائيل تريد أن تقول للعالم : “نحن نملك مفتاح الطاقة ، ونحن من نحدد قواعد الاستقرار أو الفوضى.”
إنعكاس القرار على معاهدة السلام
منذ أكثر من أربعة عقود ، كانت معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية أشبه بميزان حساس ، يقوم على معادلة دقيقة : أمن مقابل إستقرار اقتصادي ودعم دولي.
ومع مرور السنين ، تحولت الطاقة – وخاصة الغاز – إلى أحد أعمدة هذه المعادلة ، حيث استفادت إسرائيل من تصدير الفائض لمصر، واستفادت القاهرة من سد احتياجاتها وتعزيز مكانتها كمركز إقليمي للطاقة.
لكن قرار التجميد الأخير يطرح سؤالاً خطيراً :
إذا انهار البُعد الاقتصادي للسلام ، فماذا يبقى من الاتفاق سوى ورقة سياسية هشة؟
إسرائيل تُدرك جيداً أن مصر في حاجة ماسة لكل متر مكعب من الغاز ، ليس فقط لتشغيل محطاتها وتخفيف أزماتها الداخلية ، بل أيضاً للحفاظ على صورتها كـ”مركز إقليمي لتصدير الطاقة” أمام أوروبا. وعليه ، فإن تجميد الصفقة يفتح الباب أمام ابتزاز صريح :
الغاز كورقة ضغط سياسي
الملف الفلسطيني : قد تطالب تل أبيب القاهرة بقدر أكبر من المرونة تجاه سياساتها في غزة والضفة.
التحالفات الإقليمية : يمكن أن تضغط لتقليص الدور المصري في مواجهة النفوذ الإسرائيلي المتصاعد في شرق المتوسط.
الملف الأمني في سيناء : من غير المستبعد أن تُستخدم ورقة الغاز لإعادة التفاوض على الترتيبات الأمنية في المنطقة الحدودية.
أخطر السيناريوهات
إذا استمر هذا النهج ، فسنكون أمام معادلة جديدة لم يعرفها الشرق الأوسط منذ عقود :
“سلام بلا عوائد”، وهو ما قد يفجر حالة من التوتر المكتوم داخل مصر ، ويضع القيادة السياسية أمام معضلة كبرى :
إما القبول بمنطق الابتزاز الإسرائيلي .. أو إعادة فتح ملف السلام نفسه ، وهو ما قد يقلب الطاولة إقليمياً ودولياً.
السؤال الآن :
هل تستعد مصر لمواجهة هذه اللحظة الحرجة ، أم أن إسرائيل ستنجح في تكريس الغاز كسلاح سياسي جديد يجعل من معاهدة السلام مجرد غطاء هش لعلاقة غير متكافئة؟