شريف جلال القصاص.
رواية ١٩٨٤ واحدة من روائع الأدب العالمي، أحد إبداعات جورج أورويل- الاسم المستعار للكاتب البريطاني إريك آرثر بلير- كتبها عام ١٩٤٩م استشرف فيها المستقبل المظلم، وقفز إلى الغد البغيض حيث يعم العالم الظلم السياسي والتفكك الاجتماعي.
والآن ونحن في خريف ٢٠٣٠ تخطى العالم مأساة جورج أورويل في عالمه المتخيل ذاك العالم الذي فيه وزارة تسمى الحقيقة وهي على النقيض وظيفتها تزيف وتغيير الحقائق في الماضي حتى يتفق مع ما تم تزويره في الحاضر، عالم لا نجاة فيه إلا لمن يؤمن بالفكر المزدوج أن تؤمن بالشيء وضده فالحرب هو السلام والخير هو الشر ذاته، النهار هو الليل بلا أدنى فارق.
تراجعنا إلى عالم أكثر ظلمة وأشد وحشة، سقطنا في ثقب أسود ألقى بنا في عالم تسلطت فيه النانو تكنولوجي على عقول البشر، عالم لا يسمح لنا أن يكون لنا ماضي أو حاضر أو مستقبل، عالم لا يري داعى أن نفكر، أن نخطيء ونتعلم، نكتسب الخبرات من تجاربنا وتجارب غيرنا، وكأن تلك الشرائح الرقمية ومن يتحكم فيها نصبت نفسها حاكمًا أكثر تسلطًا من الأخ الكبير في رواية ١٩٨٤ تفكر نيابة عنك تحدد لك من تحب ومن تكره، تسجل لك في شهادة ميلادك أسماء والديك، تقرر من أهلك ووطنك بل وربما دينك ومعبودك، أصبحت ربة عالم قديم مرعب تشبه معبودات اليونان الأسطورية استولت على جبل الأولمب، واستطاعت أن تتحكم في عقول ومصائر سكانه وعلى رأسهم زيوس نفسه.
صار البشر تحت تأثير الإدمان التكنولوجي في مرحلة حرجة من التفكك والتشرزم المجتمعي والتحلل الأخلاقي، كثير من المصطلحات والألفاظ مثل العادات والتقاليد، الدين و الضمير، الخصائص الحضارية والثقافية للمجتمعات، أصبح من الممكن حذفها من لغات العالم، ، ما دفع إبراهيم…. لا يهم من يكون هذا ال إبراهيم غير أنه تم إحالته إلى التقاعد عن العمل بل وربما عن الحياة الحقيقية كلها.
قرر إبراهيم الفرار من هذا العالم والكفر بتلك الأوثان الإلكترونية عبر أدواتها ووسائلها، ذلك من خلال تطبيق
حديث ظهر نتيجة لتطور الذكاء الاصطناعي، وعبر برنامج يسمح له بخوض تجربة أن يعيش في ظل واحة الماضي الافتراضي، يشاهد ويلمس ويشم القديم بتفاصيله ويغوص في مواقف تشبه تلك التي مر بها في طفولته وشبابه المبكر من خلال السماح لذلك البرنامج المتصل بشبكة الإنترنت معالجة كل البيانات عن تلك الفترة وربطها بكل المعلومات المتوفرة عن الشخص الذي يريد التمتع بها وعمل سيناريو لأحداث واقعية بصورة كبيرة يشعر بواقعيتها من عاشها في ثنايا عمره.
أخرج هاتفه النقال الحديث وضع غطاء الرأس المتطور المزود بمستشعرات تتصل بالمخ، وتلتقط إشارات الذاكرة والتفكير، وضع نظارات الواقع الافتراضي على عينيه، ضغط على أيقونات البرنامج وقام بتسجيل الدخول ثم استخدام كلمة مرور، سمح للتطبيق بالولوج إلى جميع بياناته الصحية والنفسية والاجتماعية، خطوات أخرى أجراها البرنامج قبل أن يطلق صافرة متقطعة تدل على بداية التجربة الفريدة.
لكن أي عام يختار أن يعيش فيه؟
لقد اختار العام نفسه الذي اختاره أورويل للعبور إلى المستقبل البغيض ، ليكون بالنسبة له نافذته يستشرف بها الماضي الجميل، واختار أول شهر رمضان من هذا العام والذي وافق آخر أيام شهر مايو.
فتحت له نافذة أخرى لتناول أدوات ضرورية لخوض التجربة، حافظة نقود بها عملات قديمة فئة الجنيهات الورقية والفئات الأقل حتى القرش والتعريفة، ارتدى ملابس تشبه تلك التي يحتفظ بها في ألبوم صوره في طفولته، حصل على بطاقة اشتراك كانت تستعمل لركوب حافلات النقل العام، منديل قماش لتجفيف العرق، مذكرة صغيرة مسجل فيها أرقام الهواتف الأرضيه لأقاربه أصدقائِه،…..
وجد نفسه يجلس على كنبة اسطنبولي- تشبه الأنترية حاليًا- وتشير ساعة الحائط إلى الساعة السادسة صباحًا- قرر فتح التلفاز لكنه تذكر أن الإرسال يبدء في الحادية عشرة، فتح المذياع وانتقل بين برامجه العذبة سمع القرآن الكريم بصوت محمد رفعت، دقت ساعة
جامعة القاهرة تشير إلى السابعة، سمع نشرة الأخبار والتي أشارت إلى احتفال هيئة الإذاعة المصرية باليوبيل الذهبي لها، وصدور العدد الأول من جريدة الأهرام الدولية، وشيء عن زيارات قام بها السيد فؤاد محي الدين رئيس الوزراء لمتابعة الأسواق والتأكد من توفرها بأسعار مناسبة.
بعدها استمع إلى برامج قطرات الندى تقدمه الإذاعية سلوان محمود تشدوا أبيات رقيقة من الشعر، ثم برنامج طريق السلامة الذي يبدأ بغناء نجاح سلام ثم تقوم آيات الحمصاني بتقديم النصائح لقائدي السيارات على الطرق السريعة، وضرورة التأكد من سلامة المركبة حرصًا على سلامته وسلامة المواطنين، ثم حكايات أبلة فضيلة ذات التأثير الساحر على الأطفال وهي تحكي قصة السلطان الذي كان يسأل أهل مدينته عن أكبر صح وأكبر غلط، ثم جاء صوت فؤاد المهندس وبرنامج كلمتين وبس وهو يحذر التجار من رفع الأسعار ويحذر الصائمين من ضياع أجر الصيام في الكذب أو الخداع أو الإهمال في العمل بحجة الصيام وختم كالعادة حديثه بكلمته (مش كدة ولا ايه؟).
قرر أن ينزل إلى الشوارع حتى يقتفي آثار أقدامه في طريقه إلى حيث يشترى احتياجات والدته من المحال التجارية والدكاكين- الشوارع نظيفه تزينها الأشجار تجعل من التنفس متعة- كان معظمها مغلق لكن أحدها كان يجلس أمامه سيدة عجوز، نظر بسعادة لمنتجات تلك الفترة بسكويت الشمعدان، أكياس البوزو والكارتية، شاي الشيخ الشريب،..
تتبع الناس في الطرقات قرأ لغة عيونهم وأجسادهم، وجدهم يلقون التحية بوجههم البشوشة، الجميع يعرفون بعضهم، يتبادلون الحديث عبر الشرفات، يتهادون الهداية العينية والنقدية في كل مناسبة، يتشاركون في الأفراح والأحزان لاتكاد تعرف صاحب المناسبة من المجامل والضيف فالكل سواء وكأن أهل كل حي تجمعهم صلة قرابة من الدرجة الأولى، يجتمع الكبار والصغار يقضون بعض أوقاتهم في اللعب والمزاح البريء.
الكتب في أيدي الصغير والكبير مابين الكتب الدينية علوم القرآن والحديث والفقه، والكتب العلمية لاسيما كتب الدكتور مصطفى محمود التي أدمنها أبناء ذلك الجيل، القصص والروايات لنجيب محفوظ ويوسف إدريس وثروت أباظة وتوفيق الحكيم و .. يتبادلها الشباب ويلتهمونها في نهم خلال بضع ليال، اقترب صاحبنا من بائع جرائد يسأله عن الإصدار الجديد من سلسلة رجل المستحيل وملف المستقبل، تبسم البائع وأخبره أنها سوف تصدر بعد نهاية امتحانات الثانوية العامة التي كانت على الأبواب، حتى لا ينشغل بها الطلاب عن تحصيلهم.
لم ينسى في أثناء رحلته الافتراضية أن يؤدي صلاة الظهر في الجامع الأزهر، قبل أن يكمل رحلته سير على الأقدام ثم أكمل الرحلة عبر حافلة النقل العام وأثناء مروره في منطقة مجرى العيون نزل من الباب الأمامي المخصص لذلك ثم أكمل طريقه نحو جامع عمرو بن العاص في منطقة مصر القديمة حيث أدى صلاة العصر ثم جلس يستمع درس عن استقبال شهر رمضان المبارك، ثم قرر العودة إلى المنزل.
عاد إلى بيته تغمر السعادة يحمل معه العرقسوس والتمر الهندي والمخلل البلدي الشهي و…دفع ٢٧ قرش مقابل ذلك، كانت أمه تعد طعام الإفطار، كتم مشاعر الشوق إليها وتمنى لو يستطيع أن يلقى بنفسه وهمومه في صدرها، لولا أنه كان يعرف أن ذلك محض خيال تكنولوجي متطور، عاد والده قبيل أذان المغرب، قبًل يده ونظر إلى وجه والده في لهفه، ثم انشغلوا باستقبال الأقارب كما هي العادة في أول أيام الشهر الفضيل، بعد الصلاة جلس الجميع لتناول الإفطار، مذاق المحشي الجميل ونكهة البط البلدي والذي تم تربيته قبل شهور من أجل تلك المناسبة والسلطات والمقبلات المعدة في المنزل كل ذلك أعاده إلى الماضي بكل تفاصيله، هو نفس شعور مسيو أنطوان أيغو في فيلم الفار الطباخ.
أدى الرجال صلاة العشاء والتراويح وعادوا لمتابعة فوازير فطوطه ثم مسلسل رحلة المليون و المشهور ب «سمبل» تناول حلوى القطايف والكنافة التقليدية بغير تعقيد الأيام الحالية، رن جرس الهاتف الأرضي بصوته القديم الخشن لكنه لطيف يشبه النكات القديمة التي تسمعها وتضحك منها دون ملل، قبل أن يجيب سمع صوت مدخرات الهاتف تعلن له اقتراب نفادها.
خرج سريعًا من البرنامج، ثم نزع غطاء الرأس الإلكتروني بحرص حتى لا يتأذى رأسه ثم خلع نظارات الواقع الافتراضي، وهو يحدث نفسه لو يستطيع إرسال الكثير من سكان هذا العالم إلى ماضى جورج أورويل سنة ١٩٨٤، بينما يعود هو وخلاصة البشر إلى المستقبل الحقيقي عام ١٩٨٤.