مقالات

الصوابية السياسية .. الإرهاب الفكري الجديد

✍️ يوحنا عزمي 

هل تعرضت للاستبعاد يوماً من أصدقائك او زملائك في الدراسة او العمل بسبب رأي أدليت به في إحدى القضايا ؟

سواء كانت سياسية أو دينية او حياتية أو حتى رياضية وفنية ؟ هل قاطعك صديق أو أكثر بسبب تدينك او عدم تدينك ، أو بناء على اختياراتك الحياتية أو اختيارك في صناديق الاقتراع ، بل وربما وصل الأمر إلى اختياراتك في الأدب والموسيقي والسينما أيضاً ؟

لو جرى ذلك ـ وبكل تأكيد صادفك الأمر مرة واحدة على الأقل ـ وتظن أنه حادث فردي فهو ليس كذلك بالمرة ، ولا يتعلق بالمجتمع المصري أو حتى الشرقي ، الحملة الإنتخابية لمرشحة الحزب الديموقراطي هيلاري كلنتون عام 2016 رفعت شعار “الصديق الحقيقي لا ينتخب ترامب ، الصديق لا يترك صديقه ينتخب ترامب” ، وكان الغرض هو أن كل مؤيد للسيدة كلنتون عليه أن يضغط على صديقه المؤيد لترامب وأن يقايضه بين تلك الصداقة وبين الذهاب إلى صناديق الإقتراع للتصويت لصالح مرشح الحزب الجمهوري ـ الرئيس الأمريكي لاحقاً ـ دونالد ترامب.

هذا العزل المجتمعي ، تكفير الآخر وعدم الإعتراف به واستنكاره وسحب الامتيازات كأنها صك ما ، يطلق عليه في علوم السياسية “الصوابية السياسية” ، وبعيداً عن التعريف الكلاسيكي للمصطلح حيث يتعلق الأمر بالقضايا الحقوقية فحسب ، فإن الممارسة العملية لهذه الايدولوجيا السياسية قد زحفت إلى كافة القضايا السياسية وغير السياسية في المجتمع.

هو أجندة كاملة من الآراء والمواقف ، وقاموس لغوي وحالة كاملة يجب أن تعتنقها ، شكل من أشكال الوصاية الذي نظنه ينتمي إلى التطرف الديني فحسب ولكن هنا يمارسه أنصار التيارات المدنية سواء كان الحديث عن العلمانية والتنوير والليبرالية أو المدارس اليسارية وحتى الملاحدة ، إنه نسخة العلمانية والإلحاد والتنوير
في تكفير الآخر.

كهنوت علماني ، استبدلوا وصاية الدين بوصاية الشلة ، ووصاية رجل الدين بوصاية مفكر الشلة أو مثقف الشلة أيا كان ، ويمارسون التكفير السلفي بالعزل المجتمعي لكل من يخالف آرائهم.

الهندسة اللغوية والاجتماعية ، لجعل المجتمع عاجزاً عن معارضة الأفكار والأشخاص والمصالح ، صناعة أكواد للكلام ، الغرض منها هو صناعة نموذج موحد “موديل موحد” من كل شيء مناسب لأفكارهم ومصالحهم فحسب ، بحيث يصبح كل فرد فيكم هو مجرد نسخة من نسخة من نسخة فحسب دون أدني محاولة للتفكير أو الخروج عن قطيع الصوابية السياسية.

وبينما يدعي ممارسو الصوابية السياسية أنهم ينشدون أهدافاً تحررية ، فإنهم يتبنون ممارسات غير ليبرالية بل تعارض أبسط قواعد الديمقراطية ، في إثبات جديد أن التيارات المدنية ما هي إلا وجه آخر فحسب لا يتناقض مع التيارات الدينية المتطرفة بل هو نفس المرجعية المحافظة والصراع ليس أيديولوجي أو يتعلق بالحريات ولكنه صراع على الكعكة فحسب.

يميل ممارسو الصوابية السياسية بشكل عام إلى رد الانتقاد بتهم سفسطائية معلبة وهو ما يوفر بالطبع عناء الاشتباك الفكري وممارسة سلطوية أيدولوجية حيال الجميع ، مثل أغلب التيارات غير الدينية فإن ادعاء الرقي الطبقي والتميز الفكري عن الآخرين هو عنوان اللعبة ، في إطار استنكار الآخر واستخدام الصوابية السياسية باعتبارها أداة من أدوات الرقابة والضبط الاجتماعي
كأنك أمام نفس الدور التربوي والدعوي الذي يقوم به الإسلام السياسي.

رغم أنه نشاط غير حكومي يدعي البراءة عن السلطوية الفكرية والدينية إلا أنه يمارس خطاب شديد التطرف والتسلط ، دور سلطوي ونقد قاموس الصوابية السياسية يعني جهل معرفي وانعدام الكفاءة الفكرية والاجتماعي والطبقية.

وبعيداً عن تقاطع الصوابية السياسية مع الوصاية والهيمنة الدينية ، ما يكشف من اللحظة الأولي خطاب متناقض للتيارات العلمانية التي تدعى البعد عن الفكر الديني بينما هي تطبق نفس آليات الإسلام السياسي والصحوة الإسلامية والفكر الديني.

فإن الصوابية السياسية في الأساس فكر يساري، مارسه الشيوعيين الأوائل ، ثم الشيوعيين السوفييت بعد الثورة الروسية الثالثة عام 1917 لمعرفة هل يتواءم المواطن مع أفكار البلشفية للحزب الشيوعي من عدمه ، كما كان للصوابية السياسية حضور قوي في الكتاب الأحمر للزعيم الشيوعي الصيني ماو تسي تونج عام 1964.

وبعد الإسلاميين الذين يمارسون الصوابية السياسية في إطار ديني ، ثم الشيوعيين السوفييت وباقي فرق اليسار ، يأتي دور النازية والفاشية في ثلاثينات القرن العشرين.

الكاتبة الامريكية كاتلين جيبسون بجريدة واشنطن بوست بتاريخ 13 يناير 2016 أشارت إلى أن سلطات ألمانيا النازية لم تكن تعطي أوراقا ثبوتية إلا لما أسموه الآريين الأنقياء الذي تكون آراءهم صحيحة من الناحية السياسية فيما يمثل النموذج النازي للصوابية السياسية.

الروائية البريطانية الحاصلة على نوبل للآداب دوريس ليسينج (1919 – 2013) قالت ” الصوابية السياسية إمتداد طبيعي لفكرة “أجندة الحزب الحاكم”. مجموعة أخرى من اللجان المدنية تمنح أنفسها الحق في فرض آرائها على الآخرين.

إنه ميراث شيوعي لكن يبدو أنهم لا يدركون ذلك”.

المؤرخ جون ويلسون في كتاب “أسطورة الصوابية السياسية” عام 1995 قال إنه عكس المتوقع فإن الصوابية السياسية بنسختها اليسارية ساهمت في إرتفاع صوت الصوابية السياسية الدينية وللمفارقة فإن حديث ويلسون لم يكن عن الصوابية السياسية عبر التاريخ فحسب ولكن عن هذا النهج في سنوات سبعينات
القرن العشرين وما تلاها.

يمكن القول إن التأسيس الثاني والحالي للصوابية السياسية جرى على يد اليسار الليبرالي في أوروبا وأمريكا خلال سبعينات القرن العشرين ، ففي هذه الحقبة قام اليسار الليبرالي بإعادة تأسيس الأيدولوجيات اليسارية التي مورست على يد المدارس اليسارية مثل السوفييت والشيوعيين والإشتراكيين والنازيين والفاشيين وهكذا صدح اليسار الليبرالي في السبعينات بأفكار النسوية وحقوق الشواذ والسحاقيات وحرية تعاطي المخدرات والتطرف الليبرالي في الحريات الجنسية والنظام الغذائي النباتي.

وقام اليسار الليبرالي بتأمين كافة تلك الأفكار بأيدولوجيا الصوابية السياسية التي اجتاحت الجامعات الامريكية خلال ثمانيات القرن العشرين حتى أصبحت الجامعات الامريكية مفرزة يسارية حقيقية وبينما الأمريكان ينتخبون اليمين المحافظ في سنوات رونالد ريجان وبينما اليسار السوفيتي والشيوعي ينهار في الإتحاد السوفيتي ويوغوسلافيا ، وبينما الصين تتحول إلى الرأسمالية النيوليبرالية مع الاحتفاظ بمسمى الشيوعية ، كان الشباب الأمريكي يعتنق ايدولوجيات يسارية شديدة التطرف ويصدرها إلى الأوساط الشبابية حول العالم.

ديكتاتورية الشلة ، مثقف الشلة وكل منضدة في وسط البلد تضم زعيم الثورة ومخطط الثورة والشخص الذي نزل قبل 25 يناير ببضعة أيام لتحديد مسارات السلاسل الثورية ، العزل المجتمعي لكل من يخالفهم في الآراء ، القوائم السوداء ، كل تلك الأفكار من نتاج الصوابية السياسية اليسارية بمرجعية شيوعية سوفيتية ونازية فاشية.

المبهر في الأمر ، أن سيد قطب قد نادي بتلك الأفكار في مقالات كتبها عقب ثورة 23 يوليو 1952، ما يوضح لنا بجلاء أن التطرف العلماني والتطرف الإسلامي وجهان لعملة واحدة ، وأن استبداد الملاحدة لا يفرق شيئاً عن استبداد المتدينين في اغلب الأحيان وأن التكفير حاضر لدي هذا وذاك.

كتب الكاتب والناقد الأمريكي ويليام ديريزيويتز بمجلة العالم الأمريكي عدد 17 مارس 2017 أن الصوابية السياسية تعمل إلى حد كبير كنوع من العقيدة الدينية ، مضيفاً أن أداء الصوابية السياسية متعلق إلى حد كبير بالسلطوية والرقابة على الخصوم لضمان عدم إمكانية التشكيك في العقيدة ، مما يؤدي إلى الرقابة والرقابة الذاتية.

وفى هذا المضمار يقول الفيلسوف النمساوي روبرت بافلر إن الصوابية السياسية تحول المواطنين إلى أطفال عن طريق سحب الأهلية منهم ، واعتبارهم غير مُؤهلين لمواجهة ظروف الحياة ولا يستطيعون التعبير عن أنفسهم ، وأنه يجب دائماً حمايتهم وفرض الوصاية عليهم عن طريق مراقبة اللغة وحتى الفنون المختلفة وأساليب السلوك.

الكاتب الأمريكي دينيش ديسوزا في كتابه “التعليم غير الليبرالي : العرق والجنس في الحرم الجامعي” كتب أن الصوابية السياسية انتجت تطرفا مضادا ، تطرف في دعم النسويات والأقليات والسود تطرف في دعم فكرة التعدد الثقافي والعرقي.

الكاتب الأمريكي سكوت بيري كوفمان في مقال بمجلة ساينتفك أمريكان بتاريخ 20 نوفمبر 2016 أشار إلى أن الصوابية السياسية كانت دائماً من أهم أدوات الحروب الثقافية.

الأديبة والمحللة النفسية والفيلسوفة والنسوية الفرنسية جوليا كريستيفا نددت بجريدة نيويورك تايمز عدد 14 يوليو 2001 بالصوابية السياسية مشيرة إلى أنها “فكر شمولي”.

الأكاديمية الأمريكية كاميل باليا أشارت إلى أن الصوابية السياسية إدارة يسارية تأتي بنتائج عكسية حيث تنفر الجماهير من الحركات النسوية.

الكاتب البريطاني الشهير بيتر هيتشينز أشار في كتابه إلغاء بريطانيا إلى أن الصوابية السياسية هي النظام الفكري الأكثر تعصباً الذي يهدف للسيطرة على بريطانيا منذ عهد الإصلاح ، أي منذ القرن السادس عشر.

الكاتب باتريك بيوكانان في كتابه وفاة الغرب أشار إلى أن الصوابية السياسية هي الماركسية الثقافية ، وهي محاكم التفتيش الجديدة التي يسيطر عليها التعصب.

الكاتب هارفي سيفرجليت اتفق مع الأكاديمي والمؤرخ الأمريكي آلان تشارليز كورس كتبوا دراسات مشتركة عديدة عن الصوابية السياسية ، تحمل خطا عاما إلا أن هدفها الأول هو صناعة “أكواد للكلام” تخلق مناخا من القمع الفكري ، عبر ابتكار مفهوم للحريات مضاد لكافة تعريفات الحرية.

وأرجعوا انتشار وصحوة الصوابية السياسية في سبعينات القرن العشرين للأب الروحي لليسار الليبرالي في السبعينات هربرت ماركوزه (1898 – 1979) ، وهو ألماني الميلاد يهودي الديانة فر من المانيا عام 1933 مع وصول حزب العمال القومي الاشتراكي (الحزب النازي) للحكم حيث استقر في الولايات المتحدة الامريكية وعمل مع المخابرات الحربية لسنوات طويلة في بث دعاية الحرب العالمية الثانية ثم الحرب الباردة.

وهو من أسس اليسار الجديد أو اليسار الليبرالي في سبعينات القرن العشرين ، عبر إعادة توظيف حريات الشواذ والسحاقيات، والصوابية السياسية وحرية تعاطي المخدرات والخطاب النسوي المتطرف والدعوة للنظام الغذائي النباتي والالحاد ، ونظر ماركوزه إلى أن أكبر تهديد للأنظمة الرأسمالية يجب أن يكون من الطلبة والأقليات وليس من الطبقة العاملة كما ينص اليسار الماركسي او الاشتراكي.

وفى كتابه الحب والحضارة رأى ماركوزه أن الاشباع الجنسي هو طريق تحرر المجتمع ، ورغم أن الكتاب مليء بالتنظير ومحاولات ربط حديث ماركوزه بالعلم إلا أنه لم يقدم أي رؤية علمية أو حتى أيدولوجية لهذا الهراء ، ولكنه كان كافياً للمشاركة في الثورة الجنسية العالمية التي جرت ما بين أواخر الستينات وأوائل الثمانينات، وانتشار الشيوعية الجنسية على اعتبار أن هذه الممارسات الجنسية تعطي لأصحابها رقيا فكريا واجتماعيا.

وتعتبر كتابات ماركوزه من أهم الكتابات التي ربطت الإنحراف الجنسي والجندري بالحريات الجنسية والأيدولوجيات اليسارية والثقافية والثورية والنسوية والإلحاد ، ما أدى لانهيار تلك الحريات والأيدولوجيات على ضوء سيطرة مدعي الحريات عليها كغطاء لانحرافهم الجنسي والجنداري.

بالطبع الصحافة الأمريكية لم تصمت ، ومن قلب رواية 1984 للروائي الإنجليزي جورج أورويل أخرجوا مصطلح شرطة الفكر وبحلول عام 1990 أصبح هذا المصطلح هو عنوان أغلب المقالات التي تنتقد الصوابية السياسية ، الكاتب الأمريكي هربرت كول في مقال عام 1992 أشار بوضوح إلى أن الصوابية السياسية تنتمي إلى الأفكار السلفية الدينية والشيوعية.

الكاتب روجر كيمبل في كتابه “جذور الراديكالية” عام 2008 تحدث أن الصوابية السياسية تمارس عبر راديكاليين أيديولوجيين يبثون سياسة المظلومية من أجل تفكيك الثقافة الغربية.

الملاحظ أن كلام كيمبل ينطبق على المجتمع المصري بشدة. حيث تمارس المعارضة المصرية والمجتمع عموماً حالة من المظلومية المجتمعية بمرجعية محافظة يسارية ، بينما قاموس الصوابية السياسية يقف حارساً وإرهاباً فكرياً لهذه المظلومية.

وبحسب الصوابية السياسية ، فإن الإرهابي هو معارض وناشط وحقوقي ، ورفع السلاح على الدولة يصبح اسمه معركة مسلحة بين طرفين ، ولا يحق للعلم أن يناقش حقيقة أن الشذوذ الجنسي يحدث نتيجة مرض نفسي وعلى العلم أن يغلق هذا الباب ونفتح أبواب حرية الزواج لهم ونطلق عليهم المثليين ، والاضطرابات الجنسية لا يحق لنا أن نعالجها بل نترك للمريض “حرية اختيار الجندر”.

ويجب استبدال الراديكالية الذكورية براديكالية نسوية ، وتسلط الدين بتسلط الإلحاد ، وسلطة الدولة المستبدة بسلطة المثقف المستبد ، ومن يخالفهم يسحبون منه الصك ، صك الثورة أو التنوير أو العلمانية أو صك المثقفين.

ويمكن القول إن انتخاب الأمريكان لدونالد ترامب في نوفمبر 2016 يعتبر ثورة شعبية مصغرة ضد الصوابية السياسية ، ذلك لأن زعيم اليمين القومي الأمريكي ردد المصطلح مراراً في حملته الانتخابية عامي 2015 و2016، وقال نصاً إن أشخاصا مثل باراك أوباما وهيلاري كلنتون كان لديهم استعدادا للأمريكان العاديين أن يعانوا لأن الأولوية كانت للصوابية السياسية.

وكان اختيارا عبقريا من ترامب لمصطلح الأمريكي العادي ، غير المؤدلج أو الذي اعتنق أيدولوجيا فوق المجتمع او الوطن.

ومع إندلاع الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008 ، رأت الدوائر الحاكمة للغرب أن إطلاق فاشية الصوابية السياسية هو الحل الأمثل لتكميم الافوه وتحديداً لجم اليمين القومي الصاعد على ضوء فشل الوسط واليسار الليبرالي واليسار الاشتراكي وحتى اليمين المحافظ التقليدي في التصدي للازمة الاقتصادية.

يمكن القول إنه على وقع الأزمة الاقتصادية العالمية ما بين عامي 2008 و2013 تفهم الغرب الليبرالي الرأسمالي أنه يمكن بكل بساطة الاستعانة بالأيدولوجيا والأدوات اليسارية لقمع اليمين القومي، وأن الخلاف مع اليسار كان خلافا سياسيا مع الاتحاد السوفيتي ويوغوسلافيا والصين قبل الانفتاح الاقتصادي في سبعينات القرن العشرين ، وبالتالي فإن نسخة اليسار الليبرالي الموالية للغرب سوف تكون مفيدة للغاية في لجم صعود اليمين القومي.

كما أن تبني أدوات اليسار الشيوعي يعني أن تكسب الأحزاب الليبرالية جمهورا جديدا وأن تكسب الرأسمالية الدولية ظهيرا قويا وشرسا في حربها مع التيار القومي، وأيضاً فإن لتبني الصوابية السياسية والنسوية وحقوق المثليين وحرية تعاطي المخدرات مكاسب اقتصادية تتمثل في دمج هذا الجمهور اليساري في سوق العولمة والرأسمالية الامريكية.

والمفاجئ أنه في دول تتشدق بحرية التعبير والرأي ، تركوا الحبل على الغارب لنشطاء الصوابية السياسية ليجوبوا التراث السينمائي الأمريكي لتمشيطه وإعادة هيكلته وفقاً لقاموس الأجندة السياسية وتوزيع الصك الحقوقية ، ولنا أن نتخيل أنه منذ عام 2017 فإن جميع شبكات الكابل الرئيسية في أمريكا تبث مسلسل الأصدقاء
بعد حذف كافة اللقطات التي كانت فيبي تسخر فيها أو تشكك في مثلية شاندلر ، أو أي لقطة تتضمن سخرية من زوجة روس الأولي لأنها كانت سحاقية متزوجة من صديقتها.

بل وتم حذف مشهد جنسي كامل بين أنجلينا جولي وتوماس جان في فيلم Original sin وحذف نصف المشاهد الجنسية بين أنجلينا جولي وأنطونيو بنداريس من نفس الفيلم ، علماً بأن المشهد بين جولي وجان لا غني عنه لفهم الفيلم ، ولن تجده إلا في النسخة البلوراى فحسب أما النسخ الرقمية الأخرى عبر شبكة الانترنت أو التي تعرض عبر شاشات الكابل فلن تجد تلك المشاهد.

وإذا كان فيلم Original sin يعود إلى عام 2001 ، فمن المثير للدهشة أن فيلم Body of Evidence إنتاج عام 1993 قد تعرض لمقصلة الصوابية السياسية بعد ربع قرن من إنتاجه ، وبدون أسباب قامت أغلب شبكات الكابل الأمريكية بحذف أغلب المشاهد الجنسية لمادونا وجوليان مور في الفيلم.

وإذا كنا هنا نتحدث عن بضعة مشاهد ، فإن فيلم موسيقي الجنوب Song of the South إنتاج عام 1946 والذي يعد أحد كلاسيكيات ديزني والحائز على جائزة أوسكار أفضل أغنية أصلية ، والمقتبس بدوره من واحدة من أهم قصص الأدب الأمريكي ألا وهي “حكايات العم ريماس” من الفلكلور الأفروأمريكي ، وتدور في الجنوب الأمريكي خلال مواسم الزراعة حيث يقص العم ريماس ـ ويمثله شخص أسود ـ قصصه مُحاطا بحيواناته الثلاث، أرنب ودب وذئب ، عُرضوا برسوم متحركة في الفيلم.

ولكن في ثمانينات القرن العشرين جرت موجة اعتراض من مؤيدي الصوابية السياسية ، بأن الفيلم يعرض خادما وعبدا أسود يبدو سعيداً في حياته وهو أمر يتنافى مع القيم الليبرالية الحديثة ، رغم أن التاريخ يحمل لنا أنه ليس كل خادم أو عبد أسود في الجنوب كان مضطهداً وهنالك من عاش مثل العم ريماس بكامل كرامته.

وهكذا وفى أواخر الثمانينات قررت ديزني وحتى اليوم منع عرض الفيلم نهائياً ، ولم يطرح فيديو أو ما تلاها من تقنيات العرض رغم أن الكثير من المنابر الثقافية طالبت ديزني بعرضه لقيمته التاريخية وحصوله على الأوسكار وتعبيره عن عمل أدبي تطرق إلى حقبة تاريخية حاسمة ليس في الأدب او الإبداع الأمريكي بل في مجمل التاريخ الأمريكي.

لم يقم اليمين القومي أو اليمين المحافظ أو اليمين المسيحي الأمريكي بمنع فيلم من العرض منذ عام 1986 وحتى يومنا هذا ، بل فعلها اليسار الليبرالي الأمريكي تحت يافطة الصوابية السياسية.

أما في مصر ، فإن الصوابية السياسية تأخذ منحى عنيفا وعنصريا بل وربما طائفيا أيضاً ، على ضوء حقيقة أن 99.99 % من مدعي التنوير والعلمانية والإلحاد في مصر هم تربية محافظة إسلامية سواء كانت سلفية مسلمة أو مسيحية أو اخوانية وغيرها من المدارس الدينية المتشددة التي كانت مفرزة للإرهاب.

والحاصل أن هؤلاء حينما حاولوا عبثاً الخروج من العباءة المحافظة فإنهم حافظوا على روح التطرف المحافظ وبالتالي وجدوا ضالتهم في الصوابية السياسية لاستمرار تكفير الآخر والعزل المجتمعي واعتبار الآخر اقل منزلة منهم فكرياً واجتماعياً ، إنه الإرهاب الفكري في اعتى صوره ويمارسه من يدعي التحرر عن القوالب الجامدة وعن المرجعية المحافظة بل مدعي عدم الانتماء لليسار بمدارسه الشيوعية والنازية والفاشية.

والهدف هو إنتاج قطيع لا يقل سمعاً وطاعة عن قطيع الإسلام السياسي ، وفرض نصوص ثقافية مقدسة تحت يافطة إلغاء قداسة النصوص الدينية ، والملاحظ في ممارسي الصوابية السياسية سواء في الغرب أو مصر أنك أمام فكر متحرر ومحافظ في نفس الوقت ، يمارس تدينا رجعيا وانحرافا أخلاقيا في آن واحد ، في تناقض يميز حقيقة أنها أيدولوجيات ضامرة وليست أكثر من أدوات لم ترتقى لمستوي الأيدولوجيا ، مجرد أدوات يتم استغلالها من اليسار أو الليبرالية أو من حفنة من المنحرفين والمشوهين نفسياً وفكرياً وعصبياً وجنسياً لا اكثر ولا اقل.

هو تطرف ورجعية وراديكالية وفكر محافظ ، كل ما في الأمر أنه أنتقل من دعم قيم دينية إلى قيم لا دينية فحسب ، غير ذلك نفس الروح السلفية المتطرفة المحافظة الإرهابية ، إنه التكفير في نسخته التنويرية والعلمانية والإلحادية والنسوية واليسارية والليبرالية لا أكثر ولا أقل ، يمارسه مدعى تلك الأفكار من أقصى اليمين لأقصى اليسار دون أن يدركوا أنهم يمارسون طقسا يساريا شيوعيا نازيا فاشيا خالصا بمرجعية دينية محافظة في أوج تناقض شخوصهم المريضة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!