ندى أحمد
ديسمبر، القاهرة ٢٠٢٥
في أجواء تلك المدينة التي يسكُنها الضوضاء و الإنارة الزائدة التي تنتشر في الشوارع، إلا من غرفة يسكُنها “رامي” الذي يجلس على سريره الخشبي، وفي يده علبة سجائر، يُدخن واحدة تِلو الأخرى، على أمل أن تنتهي أحزانه، قوقعته السوداء التي وُجد بها منذ وفاة والدته، و مِن هُنا حياته انقلبت رأسًا على عقب، أصبحت هوايته مؤخرًا هي البحث عن الجاني.
تدور عقارب الساعة إلى أن وصلت إلى العاشرة مساءً، مُعلنة هدوء غريب، وبرودة تتخلل جسدي، تجعلني أفكر مرة أخرى لماذا قُتلت؟
ولماذا تأخرتُ تلك الليلة، لأخسر بعدها أعز ما أملُك، أمي التي وَلدتني بعد سنوات من المعاناة، كنتُ النعمة التي حصلت عليها بعد سنوات عُجاف، لا تسمع فيها صوتًا لِطفل قبل مجيئي.
أثناء انشغالي بأسئلة لم أجد لها إجابة، سَمعت رنة هاتفي، تُعلن اتصال من رقم غريب، وأنا منذ عدة أشهر لم أستجب لأي مكالمة من أُناس اعرفهم، فكيف أستجيب الآن؟ لكن شيئًا بداخلي قال لي أن أستمع للشخص المجهول وأعرف ماذا يريد.
ــ مساء الخير
ـ من أنتَ؟
ــ بالتأكيد لا تعرفني، ولا أحبذ أن تعرفني في ظروف كهذه.
ـ لستُ فارغ لتلك التفاهات، ستخبرني بِهويتك، أم أقفل الهاتف في وجهك.
ــ أنا “مُحمد” شقيق ” مُعتز” صديقك.
ـ ماذا!
“مُعتز” لم يحدثني من قبل بأن له أخ.
ــ تلك كانت كذبته الثانية التي لم تكتشفها.
ـ وما هي الكذبة الأولى، إذا أخذت حديثك على محمل الجد.
ــ لا بدّ لك أن تفعل ذلك، صدقًا أنا لا أكذب عليك، أو أخدعك، صديقك هو من تبحث عنه.
ـ أتقصد أنه الجاني ؟!
ــ نعم، من قتل والدتك “مُعتز”
ـ لا لا أنت تكذب أكيد، أو رُبما أسرفت في الشُرب إلى أن فقدت وعيك.
ــ ارجوك أنا أعرف ما أقوله جيدًا، كلفني كثيرًا معرفة ما الذي حدث، هو من قتلها، حينما تكلم معك في الهاتف، لتذهب له إلى المكان الذي تعطلت فيه سيارته، لتساعده بغرض التأكد من أنك لن تعود إلى المنزل الآن،
وقتها قال لك أن هناك مشكلة كبيرة تنتظره في العمل،
وأنه سيرحل لتبقى أنت هنا، ويفعل جريمته هناك.
أتعرف شعور أن الغرفة تدور بك، الأرضية لم تحمِل قدمك عليها من هول الحقيقة “مُحمد” لا يكذب، ما رواه لي حدث بالفعل، أسئلة كثيرة في ذهني، لمَ صديقي يفعل هذا؟؟
ــ بالتأكيد تريد معرفة السبب وراء ذلك؟
– نعم
ــ “معتز” قام بتسليم نفسه إلى الشرطة، اذهب إليه غدًا، وستعرف ما الذي جعله يصل إلى هنا، ولا أبرر ما فعله، لكن تأكد أنك جزءًا من الذي حدث.
ماذا!! كيف يكون المظلوم جزءًا من ظلمه؟
انتهت المكالمة، ولا أعرف كيف مرت الساعات القادمة وأنا أنتظر مجيئ الصباح لتهدأ الأسئلة في جوفي، ومازال تأثير الصدمة يتغلب علي.
ـ اتجهت سريعًا إلى مركز الشرطة لأرى صديقي.. بمعنى أشد صعوبة “القاتل” دخلت إلى الغرفة التي قال لي العسكري أن أنتظر بها دقائق ووجدته أمامي غالي التعبير من أي شيء وكأنه تمثال فقط ينحني برأسه إلى الأرض لا يسعني سوى قول كلمة واحدة.
ـ لماذا؟ لم أؤذيك مطلقًا، كنت أقرب صديق بمثابة أخي.
ــ لكنك جرحتني دون قصد يا “رامي”
ـ كيف؟! ما الذي فعلته ليجعلك تقتل أمي.
ــ ببساطة قمت بسرد حياتك دون الشعور بأنك تغرس يدك في قلبي وتجعله يتألم، تعرف متي كنت أشعر بذلك؟
حينما كنت تصف لي أدق تفاصيل حياتك مع والدتك، وكيف كانت طيبة، وحنونه معك، وأنك حظيت بأهتمام أنا لم أحظى به يومًا، كنت تدهس بقدمك جرحي، ولا أتحدث، إلى أن صمتي ولَّد إنفجار، توصل بي للتخلص منها تعرف لماذا؟
لتحزن مثلي، تفقد منبع الأطمئنان، كما فعلت والدتنا، وتسببت بتلك الشخصية التي عليها الآن،كانت تُعنّفني منذ صغري، لم يُحبني أحد غيرك، وعندما رأيت أنك تكِن الحب بشكل مفرط لأحد غيري، قررت أن أجعلك تشبهني، ربما أنا مريض حقا لكن” معتز” صديقك لم يعرف معنى الحب، أن يحتضنه أحد ويربت على شعره مثلما قلت سابقاً، هناك شيء لم تضعه في الحسبان، أنا قتلتها بيدي، وأنت قتلتني مئات المرات من قبل بحديثك عن ما تملُك، ونسيت أنني حُرمت من ما تملُك….
خرج “معتز” من الغرفة دون أن يسمع ردًا على ما ألقاه على مسامعي، كانت تسيطر على وجهه نظرة متألمة بعينيه معتذرًا عن ما بَدر مِنه، تمنيت لو ما أعرف الحقيقة،
كيف للمرء أن يَتألم فــ يُؤلِم؟؟
تؤذيه سعادة الآخرين، وهو من تربى على الكره والحقد، لم تُسعفه الأيادي في أشد الأوقات احتياجًا حتى أنا.
خرجت من المركز إلى منتصف الشارع، انهارت قدمي، الأرض لم تعُد تحمِلُها، فجلست على رُكبتي لأجد السماء تُعلن حزنها، فسقطت الأمطار وأختلطت بدموع عيني، اليوم انهزمت مرتين ولكنني سأتعايش،
رغم كل البأس في قلبي لا أريد أن أكون مثله.