مقالات

عندما تتحول عواصم التفاوض إلى ساحات حرب

✍️ يوحنا عزمي 

في تطور غير مسبوق ومثير للجدل ، أعلنت إسرائيل رسميا عن تنفيذ غارة جوية استهدفت العاصمة القطرية الدوحة ، مشيرة إلى أن الهجوم كان موجهاً بدقة نحو قيادات عليا من حركة حماس كانوا مجتمعين في ذلك الوقت لمناقشة المقترح الأمريكي الأخير بشأن وقف إطلاق النار في غزة.

هذا الإعلان جاء عبر بيان مشترك صادر عن جيش الإحتلال الإسرائيلي وجهاز الأمن الداخلي “الشاباك”، وأكد أن الضربة أصابت هدفها بدقة ، دون تقديم تفاصيل كاملة حول أسماء المستهدفين أو مدى نجاح العملية من حيث تصفية الأشخاص المعنيين.

هذا التصعيد الإسرائيلي ، في توقيته وطبيعته ومكانه ، يمثل سابقة خطيرة وتحولًا نوعياً في مسار الصراع القائم في المنطقة.

فالمرة الأولى التي تعلن فيها إسرائيل عن توجيه ضربة عسكرية مباشرة لقيادات المقاومة الفلسطينية خارج نطاق غزة ولبنان ، وعلى أراضي دولة عربية تُعد وسيطًا رئيسياً في مفاوضات التهدئة ، تمثل تطورًا غير مألوف ، ليس فقط في قواعد الاشتباك ، بل في حدود احترام السيادة الإقليمية ، خاصة عندما يكون الحديث عن دولة مثل قطر ، التي تستضيف واحدة من أكبر القواعد العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط ، وتُعتبر من أهم الحلفاء الاستراتيجيين لواشنطن.

المثير للانتباه أن هذه الضربة جاءت بعد أقل من أربع وعشرين ساعة فقط من نشر تقارير دولية ، في صحف عالمية معروفة، تحدثت عن ضغوط مارستها الحكومة القطرية على قيادة حركة حماس للقبول بالمقترح الأمريكي الأخير ، مشيرة إلى أن الحركة كانت قاب قوسين أو أدنى من إعلان موافقتها.

ومن هذا المنطلق ، يرى عدد من المراقبين أن الهدف الحقيقي من الهجوم الإسرائيلي لم يكن فقط استهداف أفراد ، بل نسف المسار التفاوضي بالكامل، ومنع تحقيق أي تقدم قد يؤدي إلى وقف إطلاق النار ، في خطوة يمكن فهمها كرسالة واضحة مفادها أن تل أبيب غير معنية حالياً بأي تسوية سياسية توقف الحرب ، بل تريد إطالة أمدها وفرض شروطها بالقوة.

وبخصوص من تم استهدافهم ، فقد ذكرت القناة 13 الإسرائيلية أن العملية وُجهت نحو شخصيات كبيرة من وفد حماس ، مثل خليل الحية وزاهر جبارين ، لكن لم يصدر أي تأكيد رسمي حتى الآن بشأن إصابتهم أو مقتلهم ، بينما انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي أنباء غير مؤكدة عن اغتيال الوفد بالكامل ، وهو ما نفته لاحقًا مصادر إعلامية أخرى مثل شبكة “الميادين” و”التلفزيون العربي”، التي أكدت أن الوفد المفاوض نجا من محاولة الاغتيال.

وبين هذه الروايات المتضاربة ، لا تزال الصورة غير مكتملة ، وإن كان المؤكد أن العملية ، سواء نجحت أم لا ، قد تركت أثرًا سياسيًا عميقًا يتجاوز نتائجها الميدانية المباشرة.

وفي ضوء هذه التطورات ، أصدرت وزارة الخارجية القطرية بيانًا شديد اللهجة أدانت فيه الغارة ووصفتها بـ”الاعتداء الجبان”، معتبرة أنها انتهاك صريح للقانون الدولي ، وتهديد مباشر لأمن وسلامة المواطنين القطريين والمقيمين على أرض الدولة.

كما أعلنت قطر أنها لن تتساهل مع هذا التصرف الإسرائيلي “المتهور”، وكشفت عن فتح تحقيق رسمي في ملابسات الهجوم، مؤكدة أن نتائج التحقيق ستُعرض في الوقت المناسب ، بما يشير إلى أن الدوحة تأخذ الحادث على محمل الجد ، وقد تتحرك سياسيًا ودبلوماسياً على أكثر من صعيد في الأيام المقبلة.

غير أن أخطر ما في هذه الحادثة ليس فقط الضربة في حد ذاتها ، بل ما صاحبها من صمت تام – وربما تواطؤ ضمني – من جانب الدفاعات الجوية القطرية والأمريكية.

فعلى الرغم من أن الهجوم ، بحسب الرواية الإسرائيلية ، تم باستخدام سلاح الجو التقليدي وليس عبر طائرات مسيرة أو صواريخ خفية ، لم تُسجل أي محاولة لاعتراض الطائرات أو منعها من الوصول إلى أهدافها ، في حين أن قاعدة “العديد” الجوية الأمريكية ، التي تضم عددًا ضخمًا من الطائرات وأنظمة الدفاع المتقدمة، لا تبعد سوى كيلومترات عن موقع الانفجار.

هذا التجاهل الكامل أو “عدم التفاعل” يطرح تساؤلات مقلقة للغاية حول مدى جاهزية تلك الأنظمة الدفاعية ، أو ربما وجود تفاهمات مسبقة تسمح بمرور بعض العمليات في حالات معينة ، وهو ما يفتح الباب على مصراعيه أمام نظريات متعددة ، أبرزها احتمالية علم الولايات المتحدة بالعملية مسبقًا وغض الطرف عنها ، أو على الأقل عدم الاعتراض عليها لأسباب سياسية تتعلق بملف التهدئة والعلاقة مع إسرائيل.

التداعيات الإقليمية والدولية لهذه الغارة قد تكون بعيدة المدى، فاستهداف عاصمة خليجية بهذه الطريقة قد يدفع دولًا أخرى في المنطقة إلى إعادة تقييم حساباتها ، خصوصًا السعودية والإمارات، اللتين تابعتا على الأرجح ما جرى بقلق ، لا سيما إذا ما شعرتا أن الحماية الأمريكية لم تعد كافية ، أو أن واشنطن غير قادرة أو غير راغبة في ردع الحليف الإسرائيلي حين يتجاوز الخطوط الحمراء. كما أن السلوك الإسرائيلي يضع قطر في موقف حرج ، كونها دولة تستثمر في لعب دور الوسيط المحايد، وقد تجد نفسها الآن مضطرة لمراجعة موقفها من الوساطة، وربما من العلاقة مع فصائل المقاومة ذاتها، خصوصًا إذا شعرت أن استمرار هذا الدور يهدد أمنها الداخلي.

أما على مستوى مسار التفاوض ، فمن غير المستبعد أن تؤدي هذه العملية إلى تعقيد الموقف بدرجة كبيرة، سواء عبر انسحاب حركة حماس من المفاوضات أو تشددها في شروطها، إذ يصعب تصور أن تستمر المحادثات بنفس الروح بعد محاولة اغتيال أحد أطرافها على أرض الدولة الوسيطة.

كذلك فإن استهداف قيادات من الصف الأول في مكان يُفترض أنه آمن ، يضع علامات استفهام حول أمن قنوات الاتصال السرية، ويثير الشكوك حول إمكانية حدوث اختراق استخباراتي إسرائيلي للوسيط نفسه ، أو لأجهزة الاتصال التابعة للمفاوضين ، وهو أمر ستكون له تبعات كبيرة على ثقة الأطراف في العملية التفاوضية ككل.

ختاماً ، ما جرى في الدوحة لم يكن مجرد عملية عسكرية محدودة، بل كان رسالة مدوية ستُسمع أصداؤها طويلًا ، سواء في غرف السياسة أو في مراكز صنع القرار الإقليمي والدولي.

لقد أصبح من الواضح الآن أن حدود الصراع لم تعد جغرافية فقط، بل أصبحت سياسية وأمنية واستخباراتية أيضًا، وأن كل طرف بات مستعدًا لتوسيع رقعة المواجهة لتحقيق أهدافه. والسؤال الحقيقي الآن ليس فقط عن كيف حدث هذا الهجوم ، بل عن ما الذي سيحدث بعده.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!