مقالات

اعترافات أوروبية بفلسطين تشعل صراعاً مفتوحاً مع إسرائيل وتضع المنطقة على فوهة بركان

✍️ يوحنا عزمي

يشهد العالم في الساعات الأخيرة زلزالًا دبلوماسيا حقيقياً بعدما أعلنت فرنسا اعترافها الرسمي بدولة فلسطين، تبعتها موناكو ، فيما سبقتها بريطانيا وكندا وأستراليا والبرتغال بخطوات مماثلة ، في تطور كان يُعد شبه مستحيل قبل عامين فقط. غير أن ما يعزز حجم الحدث هو أن إسرائيل اختارت الرد بطريقة تصعيدية لا تهدئة ؛ إذ أعلنت بوضوح أنه “لن تكون هناك دولة فلسطينية”، وتعمل الآن على اتخاذ إجراءات لضم الضفة الغربية كاملة تحت سيادتها.

الأمر لم يتوقف عند هذا الحد ، بل بدأت تل أبيب بالفعل بتنفيذ مخطط يدفع الفلسطينيين نحو منطقة المواصي  على حدود مصر ، في إطار عملية تهجير واسعة النطاق، وسط ضوء أخضر أمريكي مباشر من وزير الخارجية ماركو روبيو ، الأمر الذي يفتح الباب أمام احتماليات صدام خطير مع مصر.

أهمية هذه الاعترافات الأوروبية تتجلى بشكل خاص في موقف بريطانيا ؛ فهي الدولة ذاتها التي أصدرت وعد بلفور عام 1917 ، والذي أسس لقيام إسرائيل ودعم الهجرة الصهيونية إلى فلسطين وصولًا إلى النكبة عام 1948.

أن تعود هذه الدولة بعد قرن تقريباً لتعترف بفلسطين ،  يعني أن أوروبا تسعى إلى فك ارتباطها شيئا فشيئاً بالسياسة الأمريكية ، وبناء دور مستقل في الشرق   الأوسط. ويضاف إلى ذلك الإعتراف الفرنسي الأخير       في الأمم المتحدة، الذي ارتبط بدور محوري لمصر والسعودية في الوساطة ، ما أعاد لباريس بريقها كقوة أوروبية مؤثرة ، وأعطى دفعة قوية لزعامتها للتكتل الأوروبي.

لكن لماذا اتخذت أوروبا هذه الخطوة الآن؟

السبب يكمن  في أن الولايات المتحدة ، تحت إدارة ترامب ، أعادت صياغة أولوياتها الاستراتيجية ، مركزة على مواجهة الصين في ملف التجارة ، وضمان أمن إسرائيل كأولوية قصوى ، حتى وإن جاء ذلك على حساب أوروبا وأوكرانيا في مواجهة التمدد الروسي.

هذا التحول الأمريكي ترك الأوروبيين في عزلة سياسية وعسكرية ، وعرضهم لضغط شعبي هائل مع تصاعد مشاهد المجازر في غزة ، فوجدوا أنفسهم مضطرين للرد بخطوة الاعتراف بفلسطين كرسالة سياسية واضحة تجاه واشنطن وتل أبيب.

لكن المفارقة أن هذه الخطوة ، رغم رمزيتها التاريخية الكبرى ، جاءت بنتيجة عكسية على الأرض ؛ إذ دفعت إسرائيل إلى تسريع مشروعها لضم الضفة الغربية.

فقد تم بالفعل التصديق على مشروع E1 الذي يضم نحو 88% من أراضي الضفة للسيادة الإسرائيلية. كما كشفت تقارير إسرائيلية أن الضوء الأخضر الأمريكي لتنفيذ هذه الخطوات جاء مباشرة بتفويض من الرئيس ترامب ، في إشارة إلى عمق التفاهم القائم بين واشنطن وتل أبيب.

هذا التصعيد الإسرائيلي يعكس خوفا عميقا من أن يؤدي الإعتراف الأوروبي إلى تعزيز شرعية الدولة الفلسطينية على المستوى الدولي ، وهو ما تعتبره إسرائيل تهديدًا لوجودها.

لذلك تسعى لإحباط أي إمكانية لإقامة دولة فلسطينية، عبر تفكيك السلطة وفرض سيطرتها الكاملة على الأرض. وفي الخلفية ، يبقى المشروع الأوسع حاضراً : “إسرائيل الكبرى”، المدعومة أمريكيا بلا حدود ، حتى مع استخدام حق النقض في المحافل الدولية.

تقاطعت هذه التطورات مع قرار أمريكي مثير للجدل تمثل في وقف حزمة مساعدات عسكرية لتايوان بقيمة نصف مليار دولار ، وهو ما فسره محللون بأنه جزء من مساومة  مع الصين لتخفيف الضغوط الاقتصادية ، مقابل تركيز واشنطن جهودها على دعم إسرائيل. بكلمات أخرى، تخلت أمريكا عن أوروبا لصالح إسرائيل ، والآن تخفف الضغط عن الصين لنفس السبب.

خلاصة المشهد أن إسرائيل تستخدم موجة الاعترافات الأوروبية كمبرر داخلي للضم الكامل للضفة الغربية، مدعومة بالكامل من الولايات المتحدة ، فيما تستمر في مخطط تهجير الفلسطينيين من غزة نحو الحدود المصرية.

هذا التطور يضع مصر أمام أكبر تحدٍ أمني منذ حرب أكتوبر، ويبرر حشدها غير المسبوق للقوات وأنظمة الدفاع الجوي على الحدود.

ويبقى السؤال المطروح : ما هو الرد الذي سيعلنه نتنياهو بعد عودته من الولايات المتحدة ؟ وهل ستشهد الساعات القادمة خطوات جديدة تُدخل المنطقة في طور أكثر خطورة من المواجهة؟

الخلاصة التحليلية

المشهد الحالي ينذر بثلاثة مسارات محتملة ، كل منها يحمل مخاطر وتداعيات كبرى على المنطقة والعالم.

المسار الأول هو التصعيد العسكري : إذ قد يدفع إعلان الضم الإسرائيلي والتحركات على حدود مصر إلى مواجهة عسكرية مباشرة أو غير مباشرة ، سواء من خلال اندلاع انتفاضة فلسطينية جديدة أو عبر انزلاق المنطقة لمعارك أوسع تتورط فيها أطراف عربية.

المسار الثاني يتمثل في تدويل الأزمة : فمع تزايد الاعترافات الأوروبية بفلسطين ، يمكن أن تُفتح ملفات جديدة في الأمم المتحدة والمحاكم الدولية ، ما يضع إسرائيل تحت حصار سياسي وقانوني خانق ، ويدفعها لخطوات أكثر تشدداً.

أما المسار الثالث فهو التدخل الإقليمي : إذ قد تجد مصر والسعودية وإيران وتركيا أنفسهم مضطرين للانخراط المباشر، سواء لحماية حدودهم أو لتوظيف الأزمة سياسياً وهو ما يرفع من احتمالات إعادة رسم خرائط التحالفات  في الشرق الأوسط.

وبين هذه المسارات الثلاثة ، يبقى عامل الوقت وضغط الشارع العربي والدولي هما المحددان الأساسيان لشكل المرحلة المقبلة، فيما يترقب الجميع كيف سيُترجم نتنياهو تهديداته على أرض الواقع بعد عودته من واشنطن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!