✍️ يوحنا عزمي
لم تعد احتمالات الحرب مجرد سيناريو بعيد أو تهويل إعلامي ، بل تحولت إلى واقع أقرب من التهدئة ، خصوصا بعدما خرج رئيس الدولة والقائد الأعلى للقوات المسلحة ليحذر بوضوح من الغطرسة الإسرائيلية ، مؤكدًا أن اتفاقية السلام باتت مهددة ، وداعيا الشعب الإسرائيلي نفسه إلى لجم حكومة نتنياهو قبل أن تصل الأمور إلى نقطة اللاعودة.
هذه ليست مجرد تصريحات دبلوماسية أو لغة مجاملة سياسية ، بل رسالة تحمل تهديدًا صريحاً ، وتؤكد أن الحلول السياسية تستهلك أنفاسها الأخيرة.
الداخل الإسرائيلي اليوم يعيش معادلة خطيرة : بقاء نتنياهو نفسه مرتبط بتحالفه مع اليمين المتطرف بقيادة بن غفير وسموتريش ، اللذين يعتبران المواجهة مع مصر وصية دينية لاسترداد ما يصفونه بـ”أرض الميعاد” بما في ذلك سيناء. بالنسبة لنتنياهو ، فإن الهروب من المحاكمات الداخلية لن يتحقق إلا بتطبيق أجندتهم ، حتى لو قاد ذلك إلى إنفجار إقليمي.
أما على مستوى السياسة الدولية ، فإن مصر منذ 2013 كسرت قواعد اللعبة وأسقطت مشروع الشرق الأوسط الجديد ، وأفشلت رهانات في ليبيا والسودان والقرن الأفريقي ، وأعادت رسم توازنات القوة في فلسطين.
وهذا جعل بعض القوى ترى أن كسر الدور المصري لن يتم إلا باستنزاف القاهرة بفتح جبهة واسعة تستنزف اقتصادها وطاقتها، وربما تعرقل مشروع “طريق الحرير” الصيني الذي تمر عنقه من قناة السويس.
ولا يمكن إغفال معادلة تجارة السلاح. العالم اليوم يدخل عصر السلاح الذكي والذكاء الاصطناعي، فيما المخازن مليئة بأسلحة تقليدية تحتاج إلى تصريف سريع قبل أن تتحول إلى خردة. والحروب وحدها هي الوسيلة لتفريغ هذه المخازن وضمان تدفق مليارات جديدة.
لذلك ، أي صدام مُدار بين مصر وإسرائيل سيجعل الولايات المتحدة تلعب دور “الوسيط”، بينما في الواقع ستستفيد شركات السلاح ببيع معدات للطرفين. ومن هنا يصبح الإعلان الأخير عن صفقة سلاح أمريكية لمصر وسط التصعيد إشارة أولية لما يمكن أن يتضاعف لو اشتعلت الحرب.
على الصعيد الإقليمي ، هناك دول ترى في تمدد النفوذ المصري خصما من رصيدها ، ولذلك تعتبر أن الضغط على القاهرة فرصة ذهبية لإبقائها منشغلة بنفسها.
وفي الميدان فإن احتلال غزة ودفع سكانها جنوبا نحو سيناء يكشف بوضوح أن مخطط التهجير وصل إلى لحظاته الحاسمة ، بينما الحشد العسكري المصري في سيناء يعكس إدراك القاهرة بأن التهديد “وجودي” وليس مجرد احتمال.
ويبقى السؤال الكبير : هل اتفاقيات الغاز بين مصر وإسرائيل ضمان للسلام أم ورقة ضغط؟
هناك من يرى أن هذه الاتفاقيات تمنع أي مواجهة ، لكن التجارب التاريخية تثبت العكس. روسيا وأوروبا ، رغم شراكتهما في “نورد ستريم”، انخرطتا في الحرب الأوكرانية، واستمر تدفق الغاز حتى فجرت الولايات المتحدة الخط تحت الماء. الدرس هنا أن الغاز لا يمنع الحروب ، بل يتحول إلى سلاح سياسي واقتصادي يدار حسب المصلحة.
الوضع في شرق المتوسط أكثر تعقيداً. أوروبا تعتمد اليوم على غاز المنطقة بعد خسارة روسيا ، وإسرائيل تستخدم غازها كورقة نفوذ على الأوروبيين ، بينما تظل مصر البوابة الوحيدة التي يعبر منها الغاز الإسرائيلي نحو محطات الإسالة ومنها إلى أوروبا. وهذا يمنح القاهرة ورقة استراتيجية : يمكنها تعطيل الضخ ، أو إبقاءه جاريا لفترة، لتستفيد مالياً وتحتفظ بالقدرة على إيقافه في اللحظة التي تحقق أكبر مكاسب سياسية.
الخلاصة أن الغاز ليس ضماناً للسلام ، بل أداة ضغط في يد مصر. ويمكن أن يكون أول سلاح استراتيجي يُستخدم عند المواجهة ، ويؤلم أوروبا قبل أن يصيب إسرائيل.
وفي نهاية المشهد ، لا أحد يدعو للحرب. لكن عندما يتعلق الأمر بالسيادة والأرض وسلامة الشعب ، فإن الاستعداد ليس تهوراً بل واجباً وطنياً. الاستعداد لا يعني أن الحرب حتمية ، لكنه يظل وسيلة ردع حقيقية. فحين يرى العدو أن مصر جاهزة ومتحفزة ، وأن شعبها متحد ، يتردد ألف مرة قبل التفكير في الضغط على الزناد.
القوة هنا ليست دعوة للحرب ، بل ضمانة للسلام. والمصريون عبر تاريخهم أثبتوا أن وحدتهم في لحظات الخطر قادرة على قلب المعادلة وإسقاط كل المخططات، فيتحول السحر على الدوام إلى وبال على الساحر.