مقالات

عندما تتحول المجاملة إلى إهانة : سقطة ياسر جلال في الجزائر وإهانة التاريخ المصري

✍️ يوحنا عزمي

لم يكن ما قاله الفنان وعضو مجلس الشيوخ ياسر جلال  في الجزائر مجرد زلة لسان عابرة ، بل كان ـ بكل المقاييس ـ سقطة ثقافية وتاريخية تمس كرامة مصر وتاريخها العسكري ، وتنتقص من تضحيات شعبٍ قدم دماءه دفاعاً عن أرضه وعن الأمة العربية كلها.

القصة بدأت حين وقف ياسر جلال ، في مهرجان سينمائي بمدينة وهران الجزائرية، ليتسلم تكريمًا تكلف فيه المجاملة ثم تحول إلى كارثة لغوية وتاريخية مدوية. حاول أن يغازل مشاعر الجمهور الجزائري ببعض الكلمات العاطفية ، فإذا به يروي قصة ملفقة تسيء لمصر قبل أن تسيء لنفسه.

حكاية لا أساس لها من التاريخ

قال ياسر جلال إنه نشأ على قصة حكاها له والده ، مفادها أن الجزائر أرسلت قوات من الصاعقة إلى ميدان التحرير في القاهرة بعد نكسة 1967، لحماية المصريين من إنزالٍ جوي إسرائيلي مزعوم.

تخيل المشهد! القاهرة ، عاصمة مصر ، في قلبها ميدان التحرير ، محمية ـ بحسب روايته ـ من قوات أجنبية! وكأن الجيش المصري كان غائباً أو أن العاصمة كانت مستباحة تنتظر من يأتي ليحميها.

هذه ليست فقط حكاية خيالية ، بل إهانة صريحة لدماء شهداء الجيش المصري الذين سقطوا دفاعاً عن كل ذرة من تراب الوطن.

الحقيقة التي لا يعرفها النائب

لم يحدث أبدًا أن نُفذ إنزال إسرائيلي في القاهرة، ولم ترسل الجزائر قواتها لحماية العاصمة المصرية. بل في تلك الفترة كانت سماء القاهرة مؤمنة ببطاريات الدفاع الجوي المصرية ، وكانت إسرائيل نفسها تتلقى خسائر فادحة في طائراتها ، أكثر من عشرين طائرة في أيام معدودة.

ثم إن وحدة الصاعقة الجزائرية وقتها لم تكن موجودة بالشكل المعروف اليوم ، بل كانت في طور التأسيس على أيدي الضباط المصريين أنفسهم، الذين ساهموا في تدريب أولى دفعات الكوماندوز الجزائريين خلال حرب التحرير ضد فرنسا.

مصر التي احتضنت الثورة الجزائرية

الحقيقة التاريخية الثابتة أن مصر كانت السند الأول للثورة الجزائرية، منذ لحظة تأسيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية عام 1958 في القاهرة ، ومروراً بإرسال بعثة عسكرية مصرية بقيادة العقيد محمد فوزي عام 1959، لتدريب المقاتلين الجزائريين وتزويدهم بالسلاح والخبرة.
بل إن مصر خصصت ما يقرب من 75% من تمويل جامعة الدول العربية للثورة الجزائرية، ووجه الرئيس جمال عبد الناصر جزءًا من عائدات تأميم قناة السويس لدعم الكفاح الجزائري. هذا الدعم كان أحد الأسباب المباشرة للعدوان الثلاثي على مصر عام 1956.

أي أن الجزائر كانت ـ وما زالت ـ مدينة لمصر بجزء من دعمها واستقلالها ، لا العكس.

إحترام الجزائر لا يعني تزوير التاريخ

لم يكن حديثنا عن هذه الحقيقة تقليلًا من قيمة الجزائر أو من تضحيات شعبها العظيم ، فالعلاقات بين البلدين علاقة أخوة وتاريخ مشترك.

نحن لا ننسى مواقف الرئيس هواري بومدين الذي سافر بنفسه إلى موسكو بعد حرب أكتوبر ليسدد نقدًا 200 مليون دولار لتغطية صفقات السلاح العاجلة لمصر وسوريا ، ولا ننسى وقفة الملك فيصل والعراق وسوريا في خندقٍ واحد مع القاهرة.

لكن المجاملة التي تزيف التاريخ وتُهين الوطن ليست تقديرًا، بل خيانة للوعي الوطني.

حين يغيب الوعي الثقافي عن منابر الفن

الخطير في الأمر أن من قال هذا الكلام ليس شخصاً عادياً بل عضوًا في مجلس الشيوخ المصري ، يُفترض أنه يمثل نخبة مثقفة واعية بتاريخ بلدها.

ومع الأسف ، لم يعتذر النائب الفنان عن تصريحاته ، بل تمسك بها ، مؤكدًا أن القصة حقيقية لأنها وردت على لسان والده ووالدته وأقاربه! وكأن “روايات العائلة” أصبحت مصدراً لتوثيق التاريخ العسكري المصري.

هذا يكشف أزمة أعمق في وعي بعض من يُطلق عليهم اليوم صفة “فنانين”، ممن يجهلون أن تمثيل مصر أمام العالم مسؤولية ثقيلة لا تليق إلا بمن يعرف تاريخها جيدًا ويقدره حق قدره.

مصر التي لا يحميها أحد .. لأنها الحارس

مصر لم تنتظر يوماً من يحميها. هي التي تحمي نفسها وتحمي غيرها منذ فجر التاريخ.

من السويس إلى بورسعيد ، ومن معارك 1956 إلى 1973، كان الجيش المصري دائماً في الصفوف الأولى دفاعاً عن الأمة.

حتى نساء مصر حملن السلاح ووقفن في وجه المحتلين. فكيف يقبل مصري أن يُقال إن بلده كانت في حاجة إلى من يحميها بعد نكسةٍ كانت جرحاً وطنياً ، لا لحظة استسلام؟

كلمة أخيرة

ما قاله ياسر جلال ليس مجرد خطأ لغوي أو رواية عائلية بريئة ، بل إهانة موثقة أمام عدسات الإعلام العربي والدولي ، تُظهر مصر وكأنها كانت عاجزة تنتظر الإنقاذ.

إننا بحاجة إلى مراجعة حقيقية لمن يُسمح لهم بتمثيل مصر في المحافل الدولية. الفن رسالة ، لكنه أيضاً مسؤولية ، والجهل بالتاريخ لا يُغتفر حين يصدر ممن يتحدث باسم الوطن.

ولحين أن يدرك كل من يعتلي منصة أو شاشة معنى كلمة “فنان مصري”، ربما نحتاج إلى أن يكون لكل فنان مستشار ثقافي يراجعه قبل أن يتحدث باسم مصر .. حتى لا تتحول المجاملة إلى إهانة ، ولا يسقط الفن في فخ الجهل.

مصر تاريخها .. لا يُزور

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!