مقالات

إذا انكسرت مصر انكسرنا جميعاً : الجزائر ومصر .. حكاية الأخوة التي وُلدت من رماد النكسة

✍️ يوحنا عزمي

بعد نكسة يونيو عام 1967، حين عم الحزن أرجاء الوطن العربي وبدت مصر وكأنها تترنح تحت ثقل الهزيمة، لم تكن وحدها. كانت هناك دول عربية كثيرة مدت يد العون والمواساة ، لكن الجزائر تظل حالة استثنائية تستحق الوقوف أمامها.

لم تكن الجزائر وقتها دولة غنية أو مستقرة ، بل كانت بالكاد قد خرجت من حرب تحرير مروعة ضد الاستعمار الفرنسي خلفت وراءها أنهاراً من الدماء وجراحاً غائرة لم تندمل بعد. ومع ذلك ، حين سقطت مصر، نهضت الجزائر فورًا، بلا تردد، لتقول للعالم أجمع إن المعركة لم تنته ، وإن العروبة ليست شعاراً يُقال ، بل دم يسري في العروق.

في اليوم التالي مباشرة للنكسة، السادس من يونيو 1967، كان أول ما فعلته الجزائر هو إرسال شحنات من المدافع والدبابات إلى مصر ، قبل أن يهدأ غبار المعارك أو يختفي دخان الانفجارات من سماء سيناء. وصلت كتيبة مدفعية كاملة بمدافع عيار 122 و152 ملم، وبطاريات دفاع جوي متقدمة، وكان الرئيس جمال عبد الناصر نفسه هو من أعلن أن الجزائر أرسلت لمصر مائة دبابة كاملة. كان هذا الرقم في ذلك الزمن إنجازاً غير مسبوق ، ودليلًا على أن الجزائر لم تكتفِ بالكلمات أو الوعود.

لكن الدعم لم يتوقف عند حدود البر. فقد قررت الجزائر أيضًا أن تضع تحت تصرف مصر عددًا من الطائرات الحربية، دفعت ثمنها بالكامل من خزانتها المتواضعة إلى الإتحاد السوفييتي. وصلت الطائرات إلى مصر في صناديق مفككة، وتم تجميعها بأيادٍ مصرية لتدخل بعد شهور قليلة حرب الاستنزاف ، وتشارك في القصف والاشتباكات الجوية ضد العدو الإسرائيلي ، كتفاً بكتف مع طيارينا.

وفي حرب الاستنزاف ، امتزج الدم الجزائري بالمصري على طول جبهة القتال. وحين جاء يوم العبور في السادس من أكتوبر عام 1973، لم تتأخر الجزائر لحظة. بادر الرئيس هواري بومدين ، الرجل الذي حمل في قلبه عشقاً عميقاً لمصر ، بالسفر شخصياً إلى موسكو. كانت مصر وسوريا في أمس الحاجة إلى السلاح، والسوفييت يرفضون الإمداد دون مقابل. عندها فتح بومدين خزائن بلاده، وسحب مائة مليون دولار نقدًا – وهناك من يقول مائتين – وقدمها فورًا إلى الروس. لم يغادر موسكو حتى تأكد بنفسه أن شحنات السلاح بدأت في التحرك نحو القاهرة ودمشق، وكأنه يقاتل من الخطوط الأمامية.

وفي ميادين القتال المصرية ، شارك أكثر من ألفي جندي وضابط جزائري من الفيلق الثامن الميكانيكي. قاتلوا ببطولة وشرف ، ومعهم تسعون دبابة من طراز T-55، وثلاثون آلية مجنزرة للدعم السريع ، ومدافع ميدان ومضادات للطيران. أما في السماء، فقد شاركت أكثر من خمسين طائرة جزائرية من طراز ميغ وسوخوي في المعارك الجوية ، لتثبت أن الجزائر لا ترسل فقط الدعم ، بل ترسل أبناءها وأرواحها أيضاً.

ورغم أن بعض القوات الجزائرية وصلت الجبهة بعد أيام  من بدء الحرب ، إلا أنها دخلت التاريخ بأدوارها البطولية  في الدفاع عن مدن القناة ، وخاصة معارك الأدبية الشهيرة، التي يُقال إنها ساهمت في صد محاولات العدو التوغل نحو السويس والقاهرة. كانت تلك اللحظات تجسيدًا حقيقياً للعبارة الخالدة التي نطق بها بومدين.: “إذا انكسرت مصر .. انكسرنا جميعاً” لم تكن مجرد كلمات، بل كانت ميثاقاً مقدساً بين شعبين ، اختُبر في النار والدم ، وخرج منهما أكثر قوة ووحدة.

اليوم، وبعد عقود طويلة من تلك الأيام التي كتبتها البطولة بمداد العروبة، يبقى الشعب المصري مديناً بالعرفان لإخوته في الجزائر. فما فعلوه لم يكن موقفاً سياسياً عابراً، بل كان فعل أخوّة أصيلة تؤمن أن مصير العرب واحد ، وأن من يحاول أن يزرع الفتنة بين الأشقاء سيجد في قلوبنا ما يحبط مؤامرته. من مصر إلى الجزائر ، من النيل إلى الأوراس ، ستظل المحبة ممتدة، وستبقى مقولة بومدين الخالدة عنوانًا للأخوة الصادقة : إذا انكسرت مصر، انكسرنا جميعًا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!