✍️ يوحنا عزمي
نجحت الولايات المتحدة الأمريكية على مدى عقود طويلة في إعادة تشكيل الواقع العربي بما يخدم مصالحها ويعزز أمن إسرائيل التي وضعتها في قمة أولوياتها الاستراتيجية في الشرق الأوسط.
فمنذ سنوات بعيدة ، عملت واشنطن على تفكيك منظومة العلاقات العربية – العربية ، وبالأخص في مجال الدفاع العربي المشترك ، بحيث لم يعد هناك أي إطار فاعل يمكنه أن يشكل تهديدًا لمشاريعها أو لمصالح حليفتها الأولى إسرائيل.
لقد عطلت أمريكا بعناية كل المواثيق والمعاهدات الأمنية التي كان يمكن أن توحد الموقف العربي ، سواء كانت اتفاقيات ثنائية أو متعددة الأطراف ، مستخدمة في ذلك أدوات الضغط والمساومات والمناورات السياسية، وزرعت العراقيل في طريق أي تقارب عربي محتمل عبر سياسة تقوم على “دق الأسافين” والنفخ في الحساسيات التاريخية والمصالح المتعارضة بين الدول العربية ، لتوسيع الشروخ وتعميق الانقسامات بصورة غير مسبوقة. وبذلك ، وجدت نفسها قادرة على الانفراد بالهيمنة على معظم دول المنطقة ، وجعلها تدور في فلك سياساتها ومشاريعها، سواء في الميدان الأمني أو الاقتصادي أو حتى السياسي.
كانت البداية الحقيقية لهذا المسار مع إبعاد الاتحاد السوفيتي عن المشهد الإقليمي عقب اتفاقية كامب ديفيد، إذ كان الاتحاد قبلها هو المزود الأول بالسلاح والداعم الأساسي سياسيا واقتصاديًا لعدد من الدول العربية المحورية ، كما كان المدافع عنها في المحافل الدولية.
غير أن توقيع مصر على الاتفاقية فتح الباب أمام واشنطن لتقليص دور السوفييت ثم إقصائهم تمامًا. وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي ، واصلت الولايات المتحدة استراتيجيتها ذاتها مع روسيا ، التي ورثت نفوذ السوفييت ، فقامت بمحاصرتها وتضييق الخناق عليها، حتى أفقدتها القدرة على لعب أي دور مؤثر في الشرق الأوسط ، لتتحول المنطقة إلى ساحة نفوذ أمريكية خالصة ، باستثناء بعض الجيوب الصغيرة المتمردة التي لا تشكل ثقلًا حقيقياً ، مثل الحوثيين في اليمن وبعض القوى الموالية لإيران في لبنان والعراق.
اليوم ندفع جميعًا ثمن الانقياد وراء المخططات الأمريكية ، والانسياق مع شروطها وإملاءاتها منذ كامب ديفيد وحتى ما يسمى “السلام الإبراهيمي” والمشاريع الملتبسة للشرق الأوسط الجديد ، والتي تتجلى ملامحها في الحرب الجارية على غزة وما قد يترتب عليها من تداعيات إقليمية واسعة.
لم يعد هناك هدف قومي عربي مشترك يمكن أن تلتف حوله الأمة العربية وتحشد الشعوب دفاعًا عنه ، بعدما انكفأت كل دولة عربية على نفسها ، منشغلة بأزماتها الداخلية ومشكلاتها الاقتصادية والسياسية ، غير عابئة بما يجري في جوارها من صراعات وانهيارات.
ومن الطبيعي أن يتم توظيف هذا الوضع لصالح إسرائيل التي لطالما نظر إليها صناع القرار في واشنطن باعتبارها “حاملة الطائرات الأمريكية التي لا تغرق في الشرق الأوسط”، وأن أمن إسرائيل هو جزء لا يتجزأ من أمن الولايات المتحدة.
ومن خلال هذه الصورة المبالغ فيها ، مُنحت إسرائيل مكانة سياسية وعسكرية استثنائية في الغرب ، تفوق بكثير حجمها الحقيقي ودورها الفعلي.
ويبقى السؤال المؤرق : كيف يمكن للعرب أن يغيروا هذا المسار الذي قادهم إلى حالة من التراجع والتفكك والانهيار؟ إنها معضلة المعضلات ، فحتى إن وُجد من يمتلك الرؤية والقدرة على الإشارة إلى طريق الخروج من هذا المأزق التاريخي ، فمن الذي سيستمع إليه؟