مقالات

كيف تُعيد أمريكا والصين رسم خريطة الإقتصاد العالمي

✍️ يوحنا عزمي 

في عالمٍ يتغير كل يوم بسرعة الضوء ، هناك حرب جديدة تدور رحاها ، لكنها ليست ككل الحروب التي عرفناها. لا طائرات تقصف ، ولا دبابات تزحف ، ولا جنود يقتحمون الحدود. إنها حرب صامتة ، تُدار من خلف الشاشات وغرف الاجتماعات ، وتُستخدم فيها أدواتٍ لم تُصنع للقتل ، بل للتأثير والسيطرة : التجارة، الزراعة ، الصناعة ، التكنولوجيا، والعناصر النادرة التي باتت أغلى من النفط.

هذه الحرب ، التي تشتعل الآن بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين ، لن ينجو منها أحد ، لأن أثرها سيمتد  إلى كل ركن في هذا الكوكب ، وسيشعر بها كل إنسان مهما كان موقعه أو طبقته أو اهتماماته.

بدأت القصة منذ أشهر ، عندما أعاد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إشعال فتيل المواجهة مع بكين بقراراتٍ اقتصادية أحدثت زلازل في الأسواق العالمية.

فرض ترامب تعريفات جمركية هائلة على عشرات السلع المستوردة من مختلف الدول ، لكن الصين كانت الهدف الأكبر ؛ إذ وصلت التعريفات على بعض منتجاتها إلى أكثر من 245%. العالم كله وقف مذهولًا من تلك الخطوة ، لكن الصين لم تتراجع كما فعلت دول أخرى ، بل ردت بالمثل وفرضت رسومًا مضادة ، لتبدأ بينهما حرب تكسير عظام اقتصادية استُخدمت فيها كل الأسلحة الممكنة : الضرائب ، القيود التجارية ، سلاسل التوريد ، والموارد النادرة.

مرت شهور من التوتر والشد والجذب ، ثم ساد الهدوء مؤقتاً بعد أن توصل الطرفان إلى تفاهمات خفضت من حدة الحرب ، وبدأت التجارة تعود تدريجيًا إلى مسارها الطبيعي. لكن ما لم يتوقعه أحد ، أن الصين كانت تُعد سلاحًا جديدًا سيقلب الطاولة على الجميع.

ففي خطوة وُصفت بأنها “زلزال القرن الاقتصادي”، قررت بكين تشديد القيود على تصدير المعادن النادرة – وهي مجموعة من العناصر المعدنية تدخل في صناعة كل ما يُشكل ملامح الحضارة الحديثة : من الشرائح الإلكترونية، إلى السيارات الكهربائية ، مرورًا بالطائرات المقاتلة وأنظمة الذكاء الاصطناعي.

ما لا يعرفه الكثيرون أن الصين لا تملك فقط أكبر احتياطي من هذه المعادن في العالم ، بل تُسيطر أيضًا على أكثر من 70% من إنتاج المناجم ، و90% من عمليات التكرير والتصنيع عالميًا. أي أنها تتحكم في شريان الحياة الصناعية والتكنولوجية للكوكب كله. فمجرد قرار بسيط منها بتقييد التصدير ، كفيل بإيقاف مصانع كبرى في أمريكا وأوروبا وآسيا ، وشل إنتاج الهواتف والرقائق والبطاريات في غضون أسابيع.

وهذا بالضبط ما حدث : الصين أعلنت أن أي شركة تُنتج سلعة تحتوي على نسبة تفوق 0.1% من المعادن النادرة ، يجب أن تحصل أولًا على تصريح رسمي من الحكومة الصينية لتصديرها ، وإلا ستُمنع من الحصول على المعادن للأبد.

بهذه الخطوة ، تحول الاقتصاد العالمي إلى بركان يغلي. الشركات الغربية والآسيوية التي تعتمد على تلك المعادن بنسبة تفوق 90% وجدت نفسها فجأة في أزمة وجودية، لأن أي تعطيل في سلاسل الإمداد يعني توقف خطوط الإنتاج ، وخسائر بمليارات الدولارات.

الرد الأمريكي جاء سريعًا ، وعلى طريقة ترامب المعتادة : المزيد من العقوبات والرسوم الجمركية. أعلن الرئيس الأمريكي فرض رسوم إضافية بنسبة 100% على المنتجات الصينية، فوق الـ30% القديمة ، أي ما مجموعه 130% من قيمة الواردات القادمة من بكين.

الصين لم تتأخر في الرد ، ففرضت رسوما على السفن الأمريكية المارة في موانئها أو الخاضعة لإدارتها ، وقررت توجيه ضربة موجعة لترامب في خاصرته السياسية الداخلية : الفلاحون الأمريكيون.

منذ عقود ، كانت الصين أكبر مستورد لفول الصويا الأمريكي ، إذ تشتري سنويًا محصولًا يدر على الاقتصاد الأمريكي أكثر من 12 مليار دولار. لكن هذا العام ، أوقفت بكين الشراء بالكامل. السبب؟ بسيط جدًا. هؤلاء الفلاحون هم الكتلة الانتخابية الأهم لترامب – سكان الولايات الزراعية المحافظة مثل “إلينوي” و”آيوا”، الذين أوصلوه إلى البيت الأبيض.

فجأة وجدوا أنفسهم أمام كارثة اقتصادية ، بعد أن تراكم محصولهم في المخازن بلا مشترٍ ، وبدأت أرقام الإفلاس ترتفع بين المزارعين في مشهد لم تعرفه أمريكا منذ عقود.

الأدهى من ذلك ، أن الصين بدأت شراء فول الصويا من الأرجنتين – الدولة نفسها التي كان ترامب قد ضخ فيها 20 مليار دولار كمساعدات طارئة لإنقاذها من الانهيار الاقتصادي .. وهكذا تحولت أموال دافعي الضرائب الأمريكيين إلى دعم منافسيهم في السوق العالمية ، ما زاد من حدة الغضب الشعبي داخل الولايات المتحدة.

المؤسسات المالية الدولية لم تتأخر في دق ناقوس الخطر. صندوق النقد الدولي حذر من أن استمرار هذه الحرب سيخفض نمو الاقتصاد العالمي بنسبة 0.3%، فيما أعلنت منظمة التجارة العالمية أن تباعد الاقتصادين الأمريكي والصيني قد يؤدي إلى خسارة تصل إلى 7% من الناتج العالمي. أرقام مرعبة تنذر بركودٍ اقتصادي عالمي جديد ، قد يفوق في شدته أزمة 2008.

لكن الصورة لا تتوقف عند حدود واشنطن وبكين. فخلف الكواليس ، هناك تحالفات جديدة تتشكل ، أخطرها تحالف البريكس الذي يضم الصين وروسيا والهند وجنوب إفريقيا والبرازيل ، والذي بدأ فعليًا في بناء نظام دفع مالي جديد يُعرف باسم BRICS Pay، الهدف منه كسر هيمنة نظام SWIFT الذي تستخدمه أمريكا للسيطرة على حركة الأموال العالمية وفرض العقوبات. ومع تشغيل النظام الجديد، ستتمكن دول البريكس من إجراء معاملاتها بعملاتها المحلية ، بعيدًا عن الدولار.

هذا التطور يعني شيئًا واحدًا : نهاية عصر الدولار كعملة مهيمنة على التجارة الدولية. وقد بدأت ملامح هذا التغيير بالفعل مع تراجع قيمته أمام معظم العملات العالمية ، بالتزامن مع اندفاع البنوك المركزية نحو الذهب كملاذ آمن، ما يفسر القفزات التاريخية في أسعاره مؤخرًا.

وهكذا نجد أنفسنا أمام مشهدٍ جديد تمامًا من الصراع الدولي – حرب اقتصادية شاملة ، لا تُطلق فيها رصاصة واحدة ، لكنها تُعيد تشكيل خريطة القوى على الكوكب. من سينتصر فيها ؟ الصين التي تُمسك بزمام الموارد والتكنولوجيا؟ أم أمريكا التي لا تزال تملك مفاتيح النظام المالي العالمي؟

الإجابة لم تكتب بعد ، لكن المؤكد أن هذه الحرب ستُحدد ملامح القرن الواحد والعشرين كله .. وأن العالم بأسره ، نحن جميعًا، سندفع ثمنها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!