مقالات

حرب جديدة بثوب ديني : هل يشهد العالم فصلاً جديداً من الإبادة؟

✍️ يوحنا عزمي

منذ ساعات قليلة شهدنا تصعيداً أمنياً خطيراً قلب مجرى الهدنة الهشة رأسًا على عقب، إذ وقع حادث استهدف آلية هندسية تابعة لجيش الإحتلال في رفح وأسفر عن مقتل عدد من الجنود وإصابة آخرين، وما لبث أن تحول الحدث إلى شرارة إعادة القصف على كامل الجبهات داخل القطاع.

الرواية الرسمية الإسرائيلية تحدثت عن مطاردة بين عناصر المقاومة ومجموعات محلية تابعة لما وُصف بعصابات العميلات ، ثم اشتباكات مفاجئة تلتها سلسلة انفجارات – حدث غامض تُنكر المقاومة علاقتها به ـ أدى إلى تدمير الآلية وسقوط قتلى وإصابات.

وعلى الفور صدرت من مكتب رئيس الوزراء تصريحات  تلقي باللوم على حركة المقاومة كذريعة لبدء ضربات جوية ومدفعية على مواقع متفرقة ، بينما أصدر وزير الدفاع توجيهات بالتحرك العسكري الفوري ، والإعلام الحربي الإسرائيلي بدأ في بث تعليمات إخلاء للسكان حتى غرب “الخط الأصفر” على الخرائط المتداولة.

في سلوك يعكس تحولًا أعمق من مجرد مناورة عسكرية، أعلن الكنيست في جلسة أمس تغيير التسمية الرسمية للعملية من “عملية السيوف الحديدية” إلى “حرب القيامة” أو “حرب النهضة”، وهو تعبير لا يختفي خلفه سوى أبعاد أيديولوجية ودينية متشددة تحول الصراع من اشتباك عسكري تقليدي إلى مشروع حربي يحمل شحنة دينية تزيد من صعوبة الوصول إلى هدنة دائمة أو ملزمة.

هذا التسمية ليست مجرد لفظ ؛ أنها إشارة لما يصل إلى مستوى التفكير الاستراتيجي لدى اليمين الإسرائيلي ـ أن المعركة الآن تُدار بتناغم مع سردية دينية قد تطيل أمدها وتخنق أفق التسويات.

ثم جاءت الولايات المتحدة إلى المسرح ببيان مفاجئ تحدث عن تقارير “موثوقة” تفيد بتخطيط المقاومة لهجمات تستهدف مدنيين فلسطينيين ، وما لبثت أن ربطت ذلك بتهديد بالتدخل لحماية المدنيين.

هذا الإعلان يبدو ، من زاوية التحليل ، أقل براءة مما يبدو إذ يفتح الباب أمام حماية مصالح حلفاء محليين داخل القطاع يخدمون مصالح الاحتلال ، شبكات من الميليشيات أو المجموعات المحلية المنسوبة إلى جهة ثالثة والتي تُستخدم كأداة نفوذ داخل السياق الفلسطيني، وهو ما يجعل الخطاب الأمريكي عملياً يغذي محاولات إعادة تشكيل مشهد السلطة في القطاع لصالح ترتيبات نفوذ بديلة.

على الأرض ، ثمة حديث عن شبكات محلية مُشكلة منذ أشهر تضم مجموعات ومليشيات يقودها أسماء محلية تُدار أو تُسهل عملها من قبل جهات معادية، ليست فصائل مقاومة تقليدية بل أدوات تهيئها إسرائيل للتموضع داخل القطاع بعد أي تصعيد محتمل.

هذا السيناريو ، إن صح ، يشرح التحولات المفاجئة في لهجة وتصرف النخب الإسرائيلية ، ويفسر كذلك التصاعد الخطابي لدى شخصيات سياسية متطرفة تطالب باستئناف الحرب الشاملة.

كما يفسر التغير المفاجئ في لهجة بعض القادة الدوليين الذين يتبنون خطابًا يدعو لحماية “المدنيين” بينما في الحقيقة الهدف الأوسع هو حماية شبكات نفوذية يمكن أن تمهد لاحقًا لإعادة هندسة السيطرة على مساحات من القطاع.

هناك أيضًا رواية موازية تتحدث عن تفاهمات غير معلنة  بين بعض فصائل المقاومة وواشنطن على ترتيبات انتقالية مؤقتة ، تقضي ببقاء حركة معينة في سلطة رمزية لمدة خمس سنوات تحت إدارة تكنوقراطية لإعادة الإعمار، وهي صيغة ترى فيها بعض الأطراف وسيلة لتقليل عنصر العنف وتسهيل إعادة البناء.

لكن في الكواليس ، وفق ما يتم تداوله سياسياً، ثمة محاولات إسرائيلية لإقناع حلفائها بفرض نموذج تقسيم جغرافي للقطاع بنظام مناطق نفوذ يترك جزءًا تحت سيطرتها ، وجزءًا تحت إشراف أمريكي ، وجزءًا محدودًا لبقايا المقاومة – تصميم يخدم مشروع الاستيطان والتهجير ببطء ومن دون المواجهة المباشرة مع العالم.

النتيجة العملية لكل هذا هي تصعيد عسكري متجدد ،  وحالة من الضبابية الإعلامية والسياسية تحاول أن تبيض الاعتراض على أي عمل انتقامي أو توسعي ، بينما المدنيون في غزة يدفعون الثمن.

المقاومة ، من جانبها ، أعلنت رسميًا التزامها بالهدنة مرات، لكن المعطيات الآن تعكس أن من يقودون قرار الحرب داخل أروقة السياسة الإسرائيلية لا يعيرون الاعتبار للاتفاقات طالما صبغوها بصبغة وجودية – دينية. وفي مثل هذه الأجواء ، تقل فرص العودة إلى تهدئة حقيقية ما لم تتدخل عوامل خارجية بمقاربة جديدة تضع حماية المدنيين واستقرار المنطقة فوق سياسات النفوذ والتقسيم.

في الختام ، ما جرى في الساعات الماضية ليس حادثة عابرة بل جزء من تحول أوسع في خطط وتوجهات الأطراف المعنية ، ويفتح الباب أمام سيناريوهات مؤلمة إذا استمرت لغة الحرب الدينية والسياسات الانفصالية في التمدد.

الدعاء والحذر هما ما يبقى للمواطنين في القطاع الآن ، بينما يظل الأفق مفتوحًا أمام مخارج سياسية أو تصعيدات قد تغير وجه المشهد في أي لحظة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!