مقالات

التريث قبل الإعمار : بين نُبل الهدف وخطورة التوقيت في غزة

✍️ يوحنا عزمي

مرة أخرى أجد لزاماً علي أن أؤكد أن شيئاً من التريث والتأمل مطلوب قبل الإقدام على أي خطوة تتعلق بإعمار غزة ، ذلك المشروع الضخم الذي يحمل في طياته تكاليف باهظة وتبعاتٍ ثقيلة قد تتجاوز التوقعات.

فالدخول في تنفيذٍ متعجل دون حسابٍ دقيق للعواقب قد يقود إلى مأزقٍ حقيقي ، خاصة إذا ما تراجعت بعض الدول المانحة أو الجهات الممولة المهمة في منتصف الطريق ، إما لانعدام القناعة الكاملة بجدوى المشاركة ، أو لغياب الضمانات التي تلزمها بالاستمرار ، أو حتى بفعل العراقيل التي قد تضعها إسرائيل عمدًا في طريق الإعمار ، متذرعة بشتى الحجج والذرائع التي لا ينفد مخزونها منها ، لتستمر في حربٍ لا تريد لها أن تنتهي أو تهدأ.

وفي خضم هذا المشهد المعقد ، تبدو مصر ـ في تقديري ـ الدولة الوحيدة التي تتعامل مع ملف إعمار غزة بجديةٍ ومسؤولية متوازنة تجمع بين الدوافع الإنسانية النبيلة من جهة ، وبين الأهداف السياسية والأمنية من جهةٍ أخرى.

فهي ترى في إعمار غزة ليس فقط واجباً إنسانياً تجاه شعبٍ منكوب ، بل أيضا ضرورة استراتيجية للحيلولة دون تهجير سكان القطاع قسرًا تحت ذريعة استحالة العيش فيه.

ذلك أن بقاء أهل غزة في أرضهم هو الشرط الأساسي لتمهيد الطريق نحو حل الدولتين ، باعتباره التسوية الواقعية الوحيدة القادرة على إغلاق ملف الصراع الفلسطيني– الإسرائيلي بصورةٍ دائمة ونهائية ، وإجبار إسرائيل على مواجهة واقعٍ جديد لا يمكنها تجاهله أو الالتفاف عليه.

وانطلاقًا من هذا الفهم ، تستعد مصر لاستضافة مؤتمرٍ دوليٍ الشهر المقبل، دعت إليه عددًا من الدول والمؤسسات المانحة للمشاركة في إعادة إعمار غزة ، لتكون هي الراعية والمنظمة لهذا الجهد العالمي.

غير أن الاستجابة للدعوة المصرية ما تزال غير واضحة ، ولم يُعرف بعد من سيحضر أو يشارك فعلياً ، خاصة وأن تجارب المؤتمرات السابقة المشابهة على المستوى الدولي لم تُسفر في معظمها إلا عن وعود مخيبة وآمالٍ معلقة لم تجد طريقها إلى التنفيذ.

ومع الإقرار بنُبل الهدف وصدق الدافع ، إلا أن الواقع الراهن يشير إلى أن الوقت ربما لا يزال مبكرًا بعض الشيء للشروع في عملية إعمار شاملة بهذا الحجم.

فالوضع في غزة لا يزال غامضًا ومضطرباً ، واتفاق وقف إطلاق النار هشٌّ وقابل للانهيار في أي لحظة. إسرائيل ما تزال تمسك بمفاتيح المعابر ، تتحكم في فتحها وإغلاقها ، وتقرر متى وكيف تدخل المعدات ومواد البناء إلى القطاع. وإصرارها على نزع سلاح حركة حماس بالقوة قد يفجّر مواجهة جديدة تُعيد الدمار من جديد، وتنسف كل ما يُخطط له الآن من مشاريع إعمار قبل أن يبدأ.

يضاف إلى ذلك أن الموقف الخليجي – وبالأخص من الدول النفطية الثرية – يبدو متحفظًا ومترددًا ، إذ لا تُبدي هذه الدول حماسةً واضحة للمساهمة الفاعلة في إعادة الإعمار كما كان مأمولًا منها. وربما تقف خلف هذا الفتور أسباب سياسية أو أمنية لا تزال في طي الكتمان، ولم يحن الوقت بعد للكشف عنها أو تفسيرها علنًا.

كل هذه المعطيات تجعل من الضروري النظر إلى مشروع الإعمار بعين الحذر لا بعين العاطفة. فالمخاطر المحيطة به كثيرة ، والمعوقات التي قد تعترض طريقه ليست قليلة ولا بسيطة. والواقع أن المشهد كله يوحي بأن الطريق ما زال طويلًا قبل أن تبلغ غزة مرحلة الاستقرار التي تُمكّنها من استقبال مشاريع بناء حقيقية ومستدامة.

وربما يكون النهج الأمثل في هذه المرحلة هو اعتماد سياسة المراحل التدريجية ، أي البدء بخطواتٍ محدودةٍ ومدروسةٍ بعناية، تُنفذ وفق ظروف الواقع ومتغيراته ، بحيث يكون البناء على أسسٍ صلبة لا على رمالٍ متحركة ، إلى أن تحين اللحظة التي يصبح فيها الإعمار الشامل ممكنًا وذا جدوى حقيقية ، لا مجرد شعارٍ يُرفع في المؤتمرات أو وعدٍ يُطلق في البيانات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!