✍️ يوحنا عزمي
كما هي الحال مع معضلة نزع سلاح حزب الله في لبنان ، فإن محاولة شطب سلاح حركة حماس من قطاع غزة لا تقل تعقيداً أو احتداماً عما عرفناه هناك ، بل قد تكون أكثر تماساً وخطورة. وربما تكون الانعطافات القادمة أكثر عنفاً وإجراماً مما يصوره صانعو الخطط في العواصم ، لأن المقاربة العسكرية والسياسية للمسألة هنا ليست مجرد عملية فنية يمكن جدولتها وتنفيذها وفق خطوات مرتبة؛ بل هي احتكاك مباشر بمصائر بشرية وجذور شعبية عميقة، وستولد بالتأكيد ردود فعل لا يمكن ضبط مساراتها بسهولة، وستظل أصداؤها مسموعة في كل مكان يهمه الاستقرار الإقليمي والدولي.
حماس ، رغم أنها أبدت في لحظة ما استعداداً للنقاش حول تسليم السلاح كجزء من صفقة لوقف إطلاق النار ووقف المجزرة الوحشية التي عاشت تحت وطأتها غزة ، قد تعيد النظر في ذلك ببرود وواقعية. فليس من المستبعد أن تقرر الحركة ، في ظل تراكمات الخسارة والدماء والدموع ، أن ترفض التخلي عن سلاحها طواعية ، أو أن تربط أي نقاش حول نزعه بشرط واضح لا يقبل التأويل :
إنسحاب الإحتلال أولاً من أرض القطاع. وعندئذ يتبدل المشهد تماماً ؛ لأن السلاح بالنسبة لحماس ليس مجرد أدوات قتالية بقدر ما هو ورقة وجود ورمز قدرة على الردع وللحفاظ على ما تعتبره ثمن وجودها السياسي والاجتماعي داخل غزة.
المواجهة هنا ليست داخلية فحسب ؛ فهي تلقى رداً دولياً وإقليمياً مفترضاً لن يمر بسلاسة.
الأمريكيون والإسرائيليون، على الأرجح ، سيرون في مثل هذا الموقف خروجاً عن شروط أي اتفاق تم توقيعه أو قبله في لحظة تفاوض – وسيعتبرون ذلك ذريعة للرد. لكن ذلك الرد ليس متوقعاً أن يقتصر على عمليات عسكرية محددة فحسب؛ ففي أسوأ السيناريوهات قد يمتد ليشمل سياسات قسرية تؤدي إلى تهجير قسري واسع لسكان قطاع غزة ، وقطع المساعدات الإنسانية والتموينية ، ومحاولات تحميل الحركة مسؤولية انهيار الهدنة أمام العالم ، ومن ثم تأجيج حدة الانقسام والنزاع الأهلي داخل غزة نفسها. هذه الديناميكيات قد تؤدي – وللأسف – إلى انفجار داخلي من النوع الذي يفتح أبواب حرب أهلية واسعة بين قوى محلية ومؤسسات مدنية ومليشيات مسلحة، حين يشعر بعض السكان بأنهم أداة حسابات كبرى لا مستقبل لهم فيها.
لذلك تبقى كل السيناريوهات مفتوحة في غزة ؛ ليست هناك ورقة واحدة مكتوبة مسبقاً تُخفي تعقيدات الواقع، ولا خطة واحدة قادرة على احتواء مفاجآت الميدان.
الترويج الأميركي لخطته قد يظهر للعالم مساراً واضحاً ومحدداً، لكن الواقع على الأرض يعاند تصوير البساطة هذا. والحقيقة المكشوفة هي أن حماس لن تتخلى عن قطاع غزة بسهولة أو في ساعة ضعف ؛ ستبقى ركيزة مؤثرة فيه حتى اللحظة الأخيرة ، ولن ترضى بتسليم سلاحها بشكل يجعل المدنيين بلا حماية أو مكشوفين لردود أفعال قاسية قد تتبع أي انسحاب فاتحاً الباب أمام سياسات إعادة تشكيل ديموغرافية قسرية أو عسكرة متواصلة.
وهنا تكمن النقطة الحرجة التي تقوض ما يسمى “خطة ترامب” لغزة : فهي لا تزال عند بداياتها النظرية دون أن تتجاوزها إلى خطوات تنفيذية قابلة للتطبيق في ظروف ميدان متقلبة.
إسرائيل ، بقيادة ائتلافها اليميني المتطرف ، ليست بصدد سلام يجعلها تقيّد نفسها بأهداف محددة تُنهي مصالحها؛ بل على العكس تسعى إلى ترك أهدافها مفتوحة كي تستفيد من كل فرصة لاستكمال مخططاتها الأمنية والسياسية وفق تقديراتها ، كما أكد ذلك خطاب قادة اليمين مراراً من دون أن يضعوا سقفاً واضحاً لما يريدون إنهاءه أو تحقيقه.
هذا التمادي في الغموض يعكس رغبة واضحة في الاستفادة من ظروف الحرب الممتدة للتوسع في أهدافها وربما في جبهات أخرى خارج غزة إذا سنحت الظروف.
لهذا السبب قد يرحّب نتنياهو وحكومته برفض حماس لتسليم السلاح ، لأنهم سيستخدمون ذلك مبرراً لعدم الانسحاب ، ولإعادة رسم معالم القطاع وفق رؤيتهم الأمنية، وربما لفرض احتلال دائم أو أشكال من السيطرة الممتدة التي لن تسمح بعودة الحياة الطبيعية لسكان غزة.
في اللحظة التي يُعلن فيها رفض تسليم السلاح ، يتغير المشهد كله ، وتضيع أمام العالم صورة الحلول السهلة ليحل محلها واقع أكثر شراسة وخطورة ، وسلسلة من الإجراءات الانتقامية والميدانية والإعلامية التي قد تبدل ملامح القضية كلياً.
الأيام المقبلة وحدها كفيلة برسم ملامح هذا المشهد المتبدل ، لكن المؤكد حتى الآن أن لعبة النزع من السلاح في غزة ليست مجرد بند تفاوضي أو خطوة أمنية باردة – إنها مسألة مصيرية مرتبطة بالهوية والحماية والوجود ، وستقاس بموازين قسوة الأطراف المعنية وإرادة السكان الذين يعيشون تحت وطأة الحرب.
وأي قراءة بسيطة أو استسهال في تفسير حركة الأحداث ستصطدم سريعاً بصلابة الواقع، وبأن غزة ليست ورقة يمكن نقلها من طاولة إلى أخرى دون أن يتسرب إلى حوافها دماء وعنف ومآسي لا تنتهي بسهولة.