✍️ يوحنا عزمي
الولايات المتحدة الأمريكية تمر الآن بواحدة من أخطر المراحل الاقتصادية في تاريخها الحديث ، مرحلة يمكن وصفها دون مبالغة بأنها “نقطة الانفجار المالي”، بعد أن تحول الدين العام الأمريكي إلى وحش يلتهم ميزانية الدولة ويرهق مؤسساتها من الداخل.
الأزمة لم تعد مجرد أرقام جامدة في تقارير اقتصادية أو جدالات داخل الكونغرس، بل أصبحت حقيقة ملموسة تهدد استقرار أكبر اقتصاد في العالم ، وتجعل واشنطن تفكر في خطة كبرى ، تُوصف في أوساط كثيرة بأنها “عملية نصب عالمية” هدفها تحميل العالم كله أعباء ديونها.
في الأيام الأخيرة ، نشرت صحيفة Economic Times تقريرًا أحدث دوياً هائلاً في الأسواق الأمريكية والعالمية ، إذ كشفت أن الدين العام الأمريكي بلغ نحو 37.9 تريليون دولار ـ رقم لا يكاد العقل البشري يستطيع استيعابه ، فهو يعادل تقريبًا ثروة قارات بأكملها. لتقريب الصورة أكثر، فإن الحكومة الأمريكية باتت تقترض ما يقرب من 25 مليار دولار يوميًا فقط لتغطية نفقاتها. ومع تفاقم الأزمة ، دخلت مؤسسات الدولة في حالة شبه شلل بعد أن فشل الكونغرس في الاتفاق على صيغة للميزانية الجديدة ، ما أدى إلى إغلاق حكومي كبد البلاد خسائر تُقدر بـ 15 مليار دولار يوميًا خلال أسبوعين فقط.
هذه ليست تحذيرات صحافة مثيرة ، بل أرقام رسمية صادرة عن مؤسسات الدولة نفسها ، تؤكد أن الولايات المتحدة تقف فعليًا أمام جدار مالي صلب لا تستطيع تجاوزه.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا : كيف وصلت الإمبراطورية الاقتصادية الأولى في العالم إلى هذا المأزق المروع؟
للإجابة ، لابد من الرجوع إلى منتصف العام الماضي حين قرر الكونغرس رفع سقف الدين الفيدرالي للمرة الثالثة خلال أقل من خمس سنوات ، بإضافة خمسة تريليونات دولار إلى الحد الأقصى المسموح به للاقتراض ، فيما سُمي حينها بـ”القانون الجميل الكبير” أو Big Beautiful Bill الذي دفع به الرئيس ترامب.
فكرة “رفع سقف الدين” ببساطة هي السماح للحكومة بالاستدانة أكثر ، إذ إن القانون الأمريكي يضع حدًا أقصى لا يمكن تجاوزه في حجم الدين العام. لكن حين وصلت الدولة إلى حافة العجز الكامل ، لم تجد مخرجًا سوى توسيع هذا الحد لتتمكن من الاقتراض مجددًا. وهكذا ارتفع السقف من 36.1 تريليون إلى 41.1 تريليون دولار.
بمجرد تمرير هذا القانون ، فتحت واشنطن الباب على مصراعيه أمام موجة جديدة من الاستدانة ، فارتفع الدين العام بمقدار 1.7 تريليون دولار خلال شهور قليلة ، منها 400 مليار دولار في شهر واحد فقط.
وبهذا أصبحت الديون الأمريكية تفوق حجم اقتصادها بنسبة 124%، أي أن كل دولار يُنتج في الإقتصاد الأمريكي يقابله دولار وربع من الديون. الأخطر من ذلك أن الحكومة باتت تدفع سنويًا ما يزيد على 1.2 تريليون دولار في صورة فوائد فقط ، دون أن تمس أصل الدين ، ما يعني أن الولايات المتحدة تنفق على خدمة ديونها أكثر مما تنفق على الدفاع أو الجيش أو التعليم أو الصحة.
هذا النزيف المالي انعكس على حياة المواطن الأمريكي نفسه ، فبدأت الخدمات العامة تتراجع ، والبنية التحتية تتهالك ، والولايات تعاني من نقص مزمن في التمويل.
الطرق والجسور والمدارس والمستشفيات التي كانت يومًا ما مفخرة البلاد أصبحت اليوم شاهدة على أزمة مالية تخنق الدولة من الداخل ، بعدما التهمت الديون كل ما تبقى من مواردها.
في محاولة يائسة لتقليل الفجوة ، لجأ ترامب إلى ما اعتبره “السلاح الأخير”: فرض رسوم جمركية ضخمة على الدول الأخرى ، وشن حربًا تجارية شاملة لم يسلم منها أحد ، حتى الصين، التي فرض على منتجاتها جمارك وصلت إلى 245%. بالفعل ارتفعت إيرادات الجمارك بنسبة 273% خلال عام واحد ، وجمعت الحكومة 21 مليار دولار في شهر واحد ـ وهو رقم قياسي ـ لكنه يظل مجرد قطرة في بحر أمام حاجة الدولة لتوفير أكثر من 1200 مليار دولار سنويًا لتسديد فوائد الديون فقط.
الوضع بهذا الشكل يعني أن الولايات المتحدة لا تنهار فجأة، لكنها تنزلق ببطء نحو الإفلاس ، كما حدث مع إمبراطوريات كبرى عبر التاريخ ، حين خنقتها الديون فبدأت تتآكل من الداخل حتى انهارت.
لكن الأمريكيين ، بطبيعتهم البراغماتية ، لن يقفوا مكتوفي الأيدي أمام هذا المصير. ومع وصول الأزمة إلى ذروتها، بدأ خبراء الاقتصاد الأمريكي في البحث عن مخرج غير تقليدي، حتى لو كان مخرجًا “مخادعًا”، يتيح لواشنطن التخلص من ديونها دون أن تدفع الثمن الحقيقي.
هنا بالتحديد ، بدأ الحديث في الدوائر المغلقة عن خطة كبرى لإعادة تشكيل النظام المالي العالمي ، خطة تعتمد على تحويل الأزمة إلى لعبة جديدة تضمن لأمريكا أن “تُصفر عداد الديون” وتوزع العبء على العالم كله.
والوسيلتان الأساسيتان في هذه اللعبة هما الذهب والبيتكوين. فبينما تتجه البنوك المركزية في العالم الآن إلى شراء الذهب بكميات هائلة استعدادًا لما يبدو أنه “حرب اقتصادية كبرى”، تتحرك واشنطن بخطى محسوبة لإعادة رسم قواعد النظام النقدي الدولي بما يجعل عملاتها الرقمية أو مخزونها الذهبي أداة للتحكم في اقتصاد الكوكب من جديد.
الخطط تُدار في صمت ، بعيدًا عن الإعلام ، الذي لا يتناول هذه التحركات إلا على استحياء ، بينما تُبنى خلف الأبواب المغلقة معادلات مالية جديدة هدفها النهائي بسيط : أن يدفع العالم فاتورة الديون الأمريكية ، بينما تخرج واشنطن من أزمتها كما لو لم يحدث شيء.
القصة لم تنتهِ بعد ، بل هي على وشك أن تبدأ. وما يحدث اليوم في أسواق الذهب والعملات الرقمية ليس سوى مقدمة لفصل جديد من “الحرب الاقتصادية العالمية”، التي سيتكشف وجهها الحقيقي قريبًا.
وسأواصل في الجزء الثاني من هذا التحقيق تفصيل تلك الخطة الغامضة التي تُطبخ في الخفاء، وكيف تُحضر أمريكا فعليًا لأكبر عملية نقل ثروة في التاريخ الحديث.