مقالات

العالم بين جحيم ترامب .. وحكمة الصين

✍️ يوحنا عزمي

يعيش العالم اليوم تحت ظلال قاتمة من الخوف والارتباك، بعدما عاد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى سدة الحكم في ولايته الثانية ، محملاً بخطاب ناري يفيض بالتهديد والوعيد، وبسياسات تُعيد إلى الأذهان أشد مراحل الحرب الباردة توتراً ، بل وتتجاوزها في بعض مظاهرها قسوة وعدواناً.

لقد بات المناخ الدولي في عهد ترامب الثاني من أكثر المراحل اضطراباً في التاريخ الحديث ، حيث تحولت لغة القوة والعنف والهيمنة إلى السمة المميزة للسياسة الأمريكية ، وكأن العالم قد عاد فجأة إلى زمن كانت فيه شريعة الغاب هي القانون الأعلى، والمصالح المجردة هي المحرك الوحيد للعلاقات بين الأمم.

يقدّم ترامب في إدارته الجديدة نموذجاً فريداً في تطرفه لسياسات “القوة الصلبة” أو “القوة الخشنة”، تلك التي تقوم على التهديد المباشر والابتزاز السياسي، لا على الدبلوماسية أو الحوار أو احترام المواثيق والمعاهدات الدولية. لم يعد في قاموسه مكان للين أو التفاهم أو التفاوض المتكافئ، بل تحول إلى زعيمٍ يرى نفسه السيد المطلق للعالم، الآمر الناهي فيه، والقادر وحده على فتح أبواب الجحيم متى شاء. تتردد في خطاباته نبرات التهديد التي صارت مألوفة لكل من يتابع سلوكه السياسي ، تهديدات تطال كل من يعارضه أو يجرؤ على تحدي إرادته، سواء كانت حركات مقاومة أو دولاً ذات سيادة أو حتى مؤسسات دولية.

آخر فصول هذه السياسة المتغطرسة كانت تهديداته العنيفة الموجهة ضد حركة حماس ، وقبلها ضد إيران والحوثيين وغيرهم من خصومه، في سلسلةٍ لا تنتهي من الوعيد الذي جعل من “الجحيم” مفردة أساسية في لغته السياسية، ومن التلويح بالقوة العسكرية وسيلة لتذكير العالم بما تستطيع أمريكا فعله متى قررت ذلك.

والمفارقة المدهشة في سلوك ترامب أنه يصدر عن دولة تزعم أنها “قائدة العالم الحر” وأول ديمقراطية في التاريخ الحديث ، دولة تتغنى بالقانون والمؤسسات والحريات وحقوق الإنسان، وتقدم نفسها كرمزٍ للسلام العالمي ونبذ الحروب. غير أن الواقع يناقض هذا الزعم تماماً، إذ تتحول هذه الدولة الديمقراطية المزعومة في عهد ترامب إلى مصدر قلق دولي دائم، وإلى ماكينة تهديد لا تتوقف، تزرع الخوف في كل اتجاه. والمثير للسخرية أن هذه السياسات العدوانية لا تأتي من الصين مثلاً ، تلك التي يتهمها الغرب بأنها دولة شمولية ودكتاتورية وتنتهك حقوق الإنسان وتشكل خطراً على الأمن العالمي ، بل تأتي من الولايات المتحدة نفسها التي نصبت ذاتها قاضية على العالم ومعلمة له في الديمقراطية والحرية.

أما الصين، وعلى الرغم من قوتها الاقتصادية والعسكرية الهائلة التي تجعلها نداً حقيقياً لأمريكا في قيادة النظام الدولي ، فإنها تتعامل مع العالم بمنهج مختلف تماماً. لم تُعرف يوماً بالتحرش بالدول أو بإثارة الحروب أو باستعراض العضلات. بل تخاطب خصومها وحلفاءها بلغةٍ دبلوماسية رزينة تقوم على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، حتى في أحلك الظروف وأشدها توتراً.

تتحدث الصين إلى العالم بصوتٍ هادئ عاقل ، يفيض بالحكمة والمسؤولية، وهو ما أكسبها تقديراً واسعاً واحتراماً متزايداً على الساحة الدولية. فهي تدرك مكانتها كإحدى أعظم القوى في العالم، وتعي واجبها في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين وفق ميثاق الأمم المتحدة.

ولهذا اختارت أن تستخدم “قوتها الناعمة” – قوة الحوار، الاقتصاد ، والثقافة – بدلاً من لغة التهديد والسلاح، فأصبحت نموذجاً للتأثير الهادئ الذي يحقق أهدافه دون ضجيج ولا دماء.

كان يمكن لترامب ، لو شاء ، أن يقدم نموذجاً آخر مختلفاً، نموذجاً تُذكره به الأجيال كزعيمٍ جمع بين القوة والمسؤولية، بين الحزم والحكمة. لكنه بدلاً من ذلك ، آثر طريق التهديد والغرور والتصعيد ، فأصبح وجه أمريكا في العالم وجهاً غاضباً متجهماً، ينشر الخوف بدلاً من الثقة ، ويزرع بذور الكراهية حيث كان يمكن أن يزرع جسور التعاون.

وهنا يثور السؤال الجوهري : أين تكمن المشكلة حقاً؟

هل هي في الولايات المتحدة ذاتها التي سمحت له أن يعبث بمصيرها ومكانتها العالمية ، مطلقة له العنان ليصول ويجول دون رادع؟

أم في شخص ترامب نفسه ، الذي تجاوز كل الحدود بتهوره وعناده ، حتى صار من الصعب احتواؤه أو توجيهه أو كبح اندفاعاته؟

أم أن المأساة الكبرى تكمن في اجتماع الأمرين معاً – في نظامٍ سمح لرجلٍ كهذا أن يعتلي قمته ، وفي شخصيةٍ لا تعرف الاعتدال ولا تؤمن بالحكمة ، تضع العالم كله على فوهة بركان لا أحد يعرف متى ينفجر؟

ذلك هو المشهد الذي يعيشه العالم اليوم ، عالم يتأرجح بين قوةٍ عمياء لا ترى إلا مصلحتها ، وزعماء يحاولون بكل ما أوتوا من حنكة أن يمنعوا الانفجار الكبير ، بينما تظل الإنسانية كلها رهينة رجلٍ لا يرى في السلطة إلا مرآة لذاته، وفي القوة إلا وسيلة لفرض رؤيته الخاصة على الكون بأسره.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!