✍️ بقلم المستشارة : هايدي إيليا
الإنترنت .. من وسيلة ترفيه إلى أداة جريمة
لم يعد الفضاء الرقمي ساحة افتراضية للهو أو مجالاً مفتوحاً للتعبير غير المسؤول ، بل تحول في السنوات الأخيرة إلى ميدان حقيقي تُطبق فيه القوانين ويُحاسب فيه كل من يتجاوز حدود الأدب العام أو ينتهك حرمة الآخرين.
فالكلمة المكتوبة ، أو الصورة المنشورة ، أو حتى التعليق العابر على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، يمكن أن يتحول في لحظة إلى دليل إدانة قانوني أمام النيابة العامة ، إذا تضمن إساءة أو تهديداً أو تحرشاً لفظياً.

ولم تعد أفعال التحرش الإلكتروني أو السب والقذف عبر الإنترنت مجرد تصرفات طائشة أو مزاحاً عابراً، بل أصبحت جرائم مكتملة الأركان يُجرمها القانون المصري ، ويعاقب مرتكبيها بعقوبات رادعة تصل إلى الحبس والغرامة المالية.
من وسيلة ترفيه إلى ساحة للجريمة الرقمية
أضحت وسائل التواصل الاجتماعي اليوم بيئة خصبة لارتكاب جرائم السب والقذف وانتهاك الخصوصية، مع تزايد عدد مستخدمي الإنترنت في مصر الذي تجاوز 75 مليون مستخدم، ما جعل الفضاء الرقمي انعكاساً صادقاً للمجتمع المصري، بما يحمله من أنماط سلوكية متباينة بين الإيجابي والسلبي.
وفي مواجهة هذا الواقع ، صدر القانون رقم (175) لسنة 2018 بشأن مكافحة جرائم تقنية المعلومات، ليضع إطاراً تشريعياً واضحاً ينظم التعامل داخل الفضاء الإلكتروني ويحدد مسؤولية الأفراد تجاه ما يُنشر على الشبكة.
فقد نصت المادة (25) من القانون على تجريم كل من يعتدي على المبادئ أو القيم الأسرية في المجتمع المصري أو ينتهك حرمة الحياة الخاصة للغير عبر شبكة المعلومات.
كما شددت المادة (26) العقوبة في حال ارتبط الفعل بنشر صور أو تسجيلات خاصة بهدف التشهير أو الإضرار بالمجني عليه.

وبذلك أصبح نشر أي صورة أو تسجيل خاص دون إذن صاحبه ، أو إرسال رسائل ذات طابع إيحائي أو تهديدي، فعلاً يعرض صاحبه للمساءلة الجنائية الكاملة ، باعتباره تعدياً صريحاً على خصوصية الأفراد وكرامتهم.
وقائع واقعية تعكس حزم الدولة
شهدت الساحة المصرية خلال الأعوام الأخيرة عدداً من الحملات الأمنية والقضائية التي استهدفت المتحرشين إلكترونياً ومسيئي استخدام وسائل التواصل الاجتماعي.
ومن أبرز القضايا التي لاقت صدى واسعاً ، قضية فتيات “تيك توك”، التي أكدت جدية الدولة في تطبيق القانون، إذ أدينت بعض المتهمات بنشر محتوى اعتبره القضاء مخالفاً للقيم الأسرية والأخلاق العامة، رغم أنهن قدمنه في صورة ترفيهية.
كما شهدت محاكم مصرية عدة وقائع أخرى تم فيها القبض على أفراد وجهوا سباباً أو تهديدات لمواطنين عبر “فيسبوك” و“واتساب”، بعد أن تم تتبعهم تقنياً بواسطة عنوان الإنترنت (IP Address).
وقد أكدت النيابة العامة في أكثر من بيان رسمي أنها لن تتهاون في مواجهة أي إساءة تُرتكب عبر الإنترنت، وأطلقت بالفعل منصات إلكترونية مخصصة لتلقي البلاغات المتعلقة بالابتزاز أو التشهير ، حرصاً على صون حقوق الضحايا.
محكمة النقض : النشر الإلكتروني وسيلة علنية للإذاعة
أرست محكمة النقض المصرية مبدأ قانونياً مهماً يقضي بأن النشر عبر الإنترنت يُعد وسيلة علنية من وسائل الإذاعة، أي أن ما يُنشر على مواقع التواصل الاجتماعي له ذات الأثر القانوني للنشر في الصحف والمجلات.
ويترتب على ذلك أن التعليقات أو المنشورات التي تحتوي على سب أو قذف أو تهديد تُعتبر جرائم علنية حتى وإن كانت صادرة في لحظة انفعال أو على سبيل المزاح.
فالقانون لا ينظر إلى النوايا أو المبررات النفسية، بل يحاسب الأفعال التي تُحدث ضرراً وتمسّ بكرامة الأشخاص ، حماية للمجتمع من الفوضى الرقمية التي قد تنشأ عن الاستخدام غير المسؤول للكلمة.
عقوبات قانونية رادعة
يضع القانون المصري مجموعة من العقوبات الرادعة لضبط سلوك الأفراد في الفضاء الإلكتروني.
فوفقاً للمادتين (25) و(26) ، من قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات ، تصل العقوبة على انتهاك الخصوصية أو نشر محتوى مسيء إلى الحبس لمدة تصل إلى ثلاث سنوات وغرامة مالية قد تبلغ مئة ألف جنيه مصري ، أو بإحدى العقوبتين.
وفي حال تكرار الجريمة أو إذا ترتب عليها ضرر بالغ بالمجني عليه ، يجوز تشديد العقوبة لتصل إلى السجن المشدد.
كما نصّت المادتان (302) و(303) من قانون العقوبات على تجريم السب والقذف العلني بأية وسيلة كانت، بما في ذلك الوسائط الإلكترونية ، وهو ما أكدته محكمة النقض في أحكامها الأخيرة ، التي ساوت بين النشر الورقي والإلكتروني في المسؤولية القانونية.
وهم الخفاء في العالم الرقمي
ما زال بعض مستخدمي الإنترنت يعتقدون أن التخفي خلف أسماء مستعارة أو حسابات مجهولة يحميهم من الملاحقة ، غير أن هذا الاعتقاد لا يستند إلى أي أساس واقعي.
فالشركات المزودة لخدمات الإنترنت مُلزمة قانوناً بالاحتفاظ ببيانات الاستخدام لمدة لا تقل عن 180 يوماً ، وتشمل هذه البيانات عناوين الأجهزة ومواقع الدخول وسجلات الأنشطة.
وبمجرد صدور إذن من النيابة العامة، يمكن لجهات التحقيق تتبع المتهم بدقة خلال وقت وجيز، مهما حاول إخفاء هويته أو حذف آثاره الرقمية.
وبالتالي فإن مقولة “الإنترنت لا يُحاسب” أصبحت وهماً خطيراً ، إذ لم يعد الفضاء الإلكتروني منطقة معزولة عن سلطة القانون.
خاتمة : احذر قبل أن تكتب
إن الهدف من التشريعات المصرية في هذا المجال ليس تقييد حرية التعبير أو مصادرة الآراء، بل حماية الكرامة الإنسانية وصون الخصوصية العامة من العبث أو التشهير أو التحرش.
فحرية الرأي لا تعني حرية الإساءة ، والنقد الموضوعي لا يبرر الإهانة أو التشهير.
ولذلك ، ينبغي على كل مستخدم لوسائل التواصل أن يُدرك أن ما يكتبه على صفحته أو يرسله في رسالة خاصة قد يتحول إلى وثيقة إدانة تُستخدم ضده أمام القضاء.
فالعالم الرقمي لا ينسى ، والأثر الإلكتروني لا يُمحى بسهولة، والقانون لا يتسامح مع من يتجاوز حدوده.
فكلمة واحدة على الشاشة قد تضعك في قفص الاتهام ، وتجعل من “الحرية الافتراضية” قيداً حقيقياً خلف القضبان.




