✍️ يوحنا عزمي
منذ أيام قليلة كشفت صحيفة واشنطن بوست عن وثيقة مسربة صادرة عن الإدارة الأمريكية تحمل عنواناً لافتاً : GREAT Trust.
هذه الوثيقة ، التي تمتد على ثمانية وثلاثين صفحة ، قد تبدو لأول وهلة مجرد أوراق رسمية أو خطة إدارية لا تتجاوز حدود النظرية ، لكنها في حقيقتها تحمل أخطر ما يمكن أن يتخيله عقل في هذا العصر : مشروع تهجير جماعي لشعب كامل ، مموه تحت شعار براق هو “إعادة إعمار غزة”.
دونالد ترامب يسوق الخطة وكأنها مبادرة للسلام الاقتصادي ، لكن الواقع أكثر قسوة بكثير. فالمضمون الحقيقي لا علاقة له بالإعمار بقدر ما هو إعادة تشكيل ديموغرافي للسكان، وإفراغ الأرض من أصحابها ، وتحويل غزة إلى مشروع استثماري عابر للحدود.
التصور الأميركي يتحدث عن سيطرة كاملة على القطاع لعشر سنوات ، تتحول خلالها غزة إلى ما يشبه “ريفيرا الشرق الأوسط” عبر بناء مدن ذكية تعتمد على الذكاء الاصطناعي وتستقطب الاستثمارات المليارية. لكن الشرط الأساسي لتحقيق هذا الحلم هو التخلص من الفلسطينيين أنفسهم.
الفلسطيني وفق هذه الخطة أمام خيارين لا ثالث لهما : الموت تحت القصف أو الهجرة النهائية إلى دول أفريقية بعيدة مثل ليبيا وجنوب السودان والصومال وإثيوبيا.
وحتى تبدو العملية أقل وحشية ، تُقدم “رشوة الرحيل” خمسة آلاف دولار ، دعم غذائي لمدة عام ، دعم سكني لأربع سنوات ، ورمز رقمي يُسمى Token يمثل حصة الفلسطيني في أرضه ، يمكنه استبداله مستقبلًا بشقة في المدن الجديدة بعد الإعمار. لكن الجميع يدرك أن هذا مجرد وهم آخر يشبه وعود العودة التي لم تتحقق منذ النكبة.
أما من يرفض التهجير فيُجمع في مناطق مؤقتة داخل القطاع لحين اكتمال الإعمار ، مع وعود مشروطة بالعودة وفق قوانين العرض والطلب. وكأن حق الإنسان في أرضه أصبح مجرد بند تجاري تحكمه تقلبات السوق.
الأمر لا يقف هنا ؛ فالتمويل الذي قد يتوهم البعض أنه أمريكي بحت ، يأتي في الواقع من تحالف استثماري واسع يضم رجال أعمال من الإمارات وإسرائيل وإنجلترا ، إضافة إلى شركات متعددة الجنسيات. الأخطر أن ثلاثين بالمئة من أراضي غزة العامة ستُباع فعلياً للمستثمرين كي تدخل عوائدها صندوقاً باسم “إعادة إعمار غزة” ، بقيمة مستهدفة مئة مليار دولار ، وبعائد متوقع يصل إلى أربعمئة مليار خلال عشر سنوات.
هذه الأرقام الضخمة لا تعني سوى شيء واحد : أن غزة تحوّلت في عقل صناع القرار إلى مشروع بيزنس ضخم، أرض بلا شعب تُدار كحقل استثمار ، فيما يظل الشعب الأصلي مجرد تفصيلة مزعجة ينبغي التخلص منها بأسرع وقت. ولأن المشهد معقد ، برزت خلافات علنية بين ترامب ونتنياهو. الأول يرى غزة مشروعاً اقتصادياً شخصياً يريد أن يختتم به مسيرته السياسية، والثاني يراها جزءاً لا يتجزأ من مشروع “إسرائيل الكبرى” حيث السيطرة الأمنية هي الغاية ، لا المشاركة في أرباح مع مستثمرين أجانب.
ترامب يحلم بمنتجع أميركي على شاطئ المتوسط ، بينما نتنياهو يتمسك ببوابة توسعية نحو مصر والأردن وسوريا والسعودية ، وهو ما يفسر إصراره على استمرار الحرب ورفضه للهدنة ، حتى يظل ممسكاً بخيوط اللعبة الأمنية والعسكرية.
وفي الوقت الذي يتجادل فيه ترامب ونتنياهو على طاولة المصالح ، يبرز دور بن غفير الذي دفع مؤخراً نحو تسليح مئة ألف مستوطن جديد ، محولاً الشارع الإسرائيلي إلى ميليشيا مدنية جاهزة للتدخل.
الهدف المباشر من هذه الخطوة هو خلق حائط صد داخلي في مواجهة أي انتفاضة فلسطينية أو مقاومة شعبية قد تعرقل تنفيذ خطة التهجير ، بحيث لا يقتصر الأمر على الجيش، بل يتحول كل شارع وكل زقاق إلى جبهة مراقبة محصنة.
ما تكشفه هذه الخطة ليس مجرد وثيقة سياسية عابرة ، بل هو إعلان واضح أن غزة يتم التعامل معها كحقل تجارب لمشاريع الهيمنة الدولية. بينما يظن البعض أن النقاش ما يزال يدور حول هدنة أو وقف إطلاق نار ، هناك من يعيد رسم القطاع ليخلو من الفلسطينيين ويُملأ بالمستثمرين والأبراج الذكية والمشروعات العملاقة.
إنها نسخة جديدة من النكبة ، لكن بملامح أكثر حداثة ، مزيج من الأموال والرموز الرقمية وصناديق الاستثمار.
وهنا يبقى السؤال الأخطر مفتوحاً : هل سيسمح العالم بأن يكتب التهجير من جديد ولكن بلغة البيزنس ووعود التنمية أم أن الدم الفلسطيني سيظل الشاهد الوحيد على حقيقة أن الأرض لا تُباع ، وأن الذاكرة لا تمحى حتى لو صاغوها في شكل عقود استثمارية؟