مقالات

الإعتراف البريطاني بفلسطين : زلزال دبلوماسي يربك واشنطن ويعزل إسرائيل

✍️ يوحنا عزمي 

منذ اللحظة التي أعلن فيها كير ستارمر، رئيس الوزراء البريطاني، أن بلاده تعترف رسمياً بدولة فلسطين، بدا المشهد وكأنه زلزال سياسي يضرب قلب الدبلوماسية الغربية.

بريطانيا التي لطالما اتُهمت بأنها صاحبة الدور التاريخي في مأساة فلسطين منذ وعد بلفور ، تعود اليوم لتقول : “نحن نعترف بفلسطين دولة”. ليس مجرد موقف رمزي أو تصريح بروتوكولي ، بل قرار سيادي يُغير قواعد اللعبة ، ويفتح الباب أمام أسئلة أكبر : هل آن أوان تحول الرواية الغربية تجاه الصراع؟ وهل تستطيع هذه الخطوة أن تعيد الحياة لجثة حل الدولتين التي أُعلنت وفاتها مراراً؟

الولايات المتحدة، بطبيعة الحال، لم تبتلع الطُعم بسهولة. الرئيس دونالد ترامب لم يتأخر في إبداء تحفظه، بل أعلن صراحة أنه “يختلف” مع ستارمر في هذه النقطة، مؤكدا أن أولوياته ليست الإعتراف بل معالجة ملفات أخرى :

إطلاق سراح الرهائن ، إدخال المساعدات إلى غزة ، ومحاولة وقف نزيف الدم. بمعنى آخر ، واشنطن ترى أن الإعتراف بدولة فلسطين الآن قفزة في المجهول قد تُربك حساباتها، وأن الدبلوماسية الأمريكية لا تحتمل مجازفات غير محسوبة في لحظة غارقة بالعنف والفوضى.

لكن ما وراء كلمات ترامب أعمق بكثير. فالإدارة الأمريكية تدرك أن أي اعتراف متسرع سيضعها في مواجهة مباشرة مع إسرائيل ، الحليف الاستراتيجي الذي لا يمكن التخلي عنه.

كما أن الداخل الأمريكي نفسه منقسم : هناك تيار يرى أن الوقت قد حان للجرأة والاعتراف ، وتيار آخر يخشى أن يُفهم الأمر وكأنه تخل عن إسرائيل أو رضوخ لضغوط الشارع العالمي. وحتى نائبه ، JD فانس، عبر بوضوح عن أن الاعتراف “ليس مطروحًا الآن”، في إشارة إلى أن البيت الأبيض يفضل سياسة التدرج وربط الإعتراف بشروط إصلاحات فلسطينية وضمانات أمنية حديدية لصالح إسرائيل.

ردود الفعل الدولية بدت كأنها خريطة معقدة من التناقضات. الفلسطينيون احتفلوا بالقرار البريطاني، ورأوا فيه انتصارًا معنويًا وسياسيًا ، وربما بداية فك العزلة عن قضيتهم بعد سنوات من التراجع والتهميش.

أما إسرائيل، فجاء ردها صاخباً وغاضباً، إذ وصف نتنياهو الخطوة بأنها “مكافأة للإرهاب”، وكأن الاعتراف بدولة فلسطين جريمة يعاقب عليها القانون الدولي.

وبين هذا وذاك ، انقسمت العواصم الغربية : كندا وأستراليا سارتا على النهج ذاته ، بينما بقية أوروبا  ترددت بين الصمت والترقب ، وبعضها اكتفى بعبارات حذرة تدعو لـ”إحياء المفاوضات” دون الذهاب إلى الإعتراف.

منظمات حقوق الإنسان والأمم المتحدة وجدت في الخطوة فرصة لتذكير العالم بأن للفلسطينيين حقا أصيلا في تقرير المصير ، وأن الوقت قد حان لتصحيح مسارٍ تاريخي من الظلم. لكن التحذير كان حاضراً : الإعتراف وحده لا يصنع دولة ، ولا يوقف الاستيطان ، ولا يعالج الانقسام الفلسطيني الداخلي ، ولا يوقف الصواريخ والدمار.

التداعيات المتوقعة لهذا القرار قد تكون دراماتيكية. بريطانيا فتحت الباب ، وربما تلحق بها دول أوروبية أخرى، مما سيغير موازين التصويت داخل الأمم المتحدة والمنظمات الدولية.

إسرائيل ، في المقابل، قد تجد نفسها أمام عزلة متزايدة إن لم تعِ أن العالم لم يعد يتسامح مع سياسة فرض الأمر الواقع بالقوة. والفلسطينيون، من جهتهم، سيكونون أمام اختبار عسير: هل يستثمرون الإعتراف في بناء مؤسسات حقيقية شفافة وفاعلة، أم يضيعونه في صراعات داخلية وفساد طال أمده؟

أما الولايات المتحدة ، فهي في مأزق استراتيجي. إذا استمرت في تجاهل هذا التحول الدولي، ستخسر الكثير من رصيدها في العالم العربي والإسلامي، حيث يُنظر إليها على أنها تنحاز بشكل مطلق لإسرائيل.

وإذا قررت اللحاق بركب الاعتراف ، فسيُنظر إليها في تل أبيب وكأنها طعنة في ظهر الحليف التاريخي. هنا بالضبط تكمن معضلة واشنطن : كيف تُمسك العصا من الوسط دون أن تنكسر؟

الحقيقة أن الإعتراف البريطاني ليس النهاية، بل البداية. بداية معركة دبلوماسية طويلة قد تُعيد تشكيل ملامح الصراع من جديد. هل يفتح الباب لسلام عادل طال انتظاره؟ أم يضيف طبقة جديدة من التعقيد على جرح لم يلتئم منذ أكثر من سبعين عاماً؟

ما نعرفه الآن أن العالم تغير قليلًا في 21 سبتمبر 2025. بريطانيا قالت كلمتها ، والولايات المتحدة ترددت ، وإسرائيل غضبت ، وفلسطين احتفلت. لكن ما سيُكتب في الفصول المقبلة يعتمد على من سيحول هذا الإعتراف من حبر على ورق إلى واقع على الأرض.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!