مقالات

قمة شرم الشيخ للسلام : حين أعادت مصر رسم خريطة الشرق الأوسط

✍️ يوحنا عزمي

في لحظة استثنائية من تاريخ المنطقة ، تستعد أرض مصر لأن تكون مسرحاً لحدث لم يشهده الشرق الأوسط من قبل. أكثر من ثلاثين رئيساً وملكًا من أكبر وأهم دول العالم في طريقهم إلى شرم الشيخ، حيث ستنطلق خلال ساعات قمة السلام التي ستعيد صياغة موازين القوى في المنطقة، وتفتح فصلًا جديدًا في مسار الصراعات والتفاهمات الدولية.

منذ الساعات الأولى من صباح الثالث عشر من أكتوبر 2025، بدأت ملامح هذا اليوم التاريخي تتشكل بوضوح. فالقمة ليست مجرد لقاء دبلوماسي أو احتفالية رمزية بوقف الحرب الإسرائيلية على غزة، بل هي إعلان رسمي عن تحول استراتيجي شامل ، تشارك فيه القوى الكبرى لتثبيت واقع جديد للمنطقة ، واقع تتحرك مفاتيحه من القاهرة.

اللافت أن القمة لم تُعقد من أجل مفاوضات أو مناقشات طويلة كالتي عرفها العالم من قبل ، فالاتفاقات الحقيقية وُقعت بالفعل قبل أيام ، والحرب توقفت رسمياً. ما يحدث الآن هو ما يمكن وصفه بـ”استعراض القوة السياسية”، إذ يجتمع زعماء العالم في مشهد واحد ليؤكدوا أمام الكاميرات التزامهم بالسلام، ويغلقوا الباب أمام أي محاولات مستقبلية للنكوص أو المراوغة.

في الصباح ، كانت الأضواء مسلطة على زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لتل أبيب ، حيث ألقى خطاباً باهتاً في الكنيست صفق له الحضور طويلاً ، قبل أن يفاجئه بنيامين نتنياهو بهدية رمزية أطلق عليها اسم “حمامة السلام الذهبية”. خطوة ظاهرها مجاملة ، لكنها جاءت كرد فعل مباشر على الإعلان المصري بمنح ترامب “قلادة النيل”، أرفع وسام مصري على الإطلاق ، تقديرًا لدوره في إيقاف الحرب والتوصل إلى اتفاق يضمن استقرار المنطقة.

ولمن لا يعرف ، فإن قلادة النيل ليست مجرد قطعة من الذهب، بل رمز تاريخي عريق يعود إلى عام 1915، تُمنح فقط لمن قدّم خدمات جليلة لمصر أو للإنسانية. وقد حصل عليها سابقًا شخصيات بارزة مثل الملك سلمان بن عبد العزيز ، نيلسون مانديلا ، أحمد زويل ، مجدي يعقوب ، ونجيب محفوظ. منحها لترامب في هذا التوقيت له دلالات أعمق بكثير من التكريم؛ إنه احتواء دبلوماسي بارع لرجل نرجسي يعشق الأضواء ، وفي الوقت نفسه تأكيد على مكانة مصر كقوة إقليمية قادرة على صياغة مشهد السلام العالمي.

والأكثر ذكاءً أن الوسام يحمل اسم “النيل”، النهر الذي يمثل الحياة والسيادة والأمن القومي لمصر. لذا فإن منحه في هذا التوقيت بالتحديد كان رسالة سياسية مبطنة إلى إثيوبيا، خاصة بعد تصريحات الرئيس المصري الحاسمة في مؤتمر المياه أمس، حين أكد أن وقت المفاوضات حول سد النهضة قد انتهى ، وأن العالم كله شاهد الأضرار التي لحقت بدول المصب بسبب السياسات الأحادية في إدارة مياه السد.

وفي الوقت نفسه الذي كان ترامب يتلقى فيه “حمامة نتنياهو”، كانت المقاومة الفلسطينية تكتب مشهدًا لا يقل رمزية: مقاتلون ملثمون من المقاومة يخرجون من شمال خان يونس لتسليم الأسرى الإسرائيليين لفرق الهلال الأحمر، تنفيذًا لبنود الاتفاق. المدهش أن العملية تمت من منطقة كان جيش الاحتلال قد أعلن سيطرته الكاملة عليها عشرات المرات ، ما أظهر هشاشة السردية الإسرائيلية ، وأثبت أن جذوة المقاومة لا تزال متقدة رغم عامين من القصف والإبادة.

أما أكثر المشاهد غرابة فكان ما حدث في الكواليس بين ترامب ونتنياهو. فبحسب مصادر إعلامية، توسط ترامب شخصيًا لدى الرئيس المصري ليوافق على حضور نتنياهو قمة شرم الشيخ. وبعد مكالمة قصيرة ، وافق الرئيس المصري على ذلك ، بل وعرض ترامب أن يصطحبه معه على متن طائرته الخاصة. كانت تلك لحظة محرجة لنتنياهو الذي بدا وكأنه يستجدي الشرعية عبر “وساطة ترامب”، خصوصًا بعدما رفضت القاهرة توجيه دعوة رسمية له سابقًا.

لكن سرعان ما اشتعلت النار داخل الحكومة الإسرائيلية نفسها، إذ هدد وزير المالية سموتريتش ووزير الأمن القومي بن غفير بالاستقالة في حال سافر نتنياهو إلى مصر، معتبرين أن مشاركته ستُظهر إسرائيل كمهزومٍ رضخ للواقع الجديد الذي فرضته القاهرة وواشنطن. ثم جاءت الضربة الأقوى حين أعلنت بعض الدول العربية ، مثل العراق ، أنها لن تشارك في القمة إذا حضر نتنياهو ، لتزداد عزلة إسرائيل السياسية في لحظة كانت تبحث فيها عن أي نافذة للشرعية.

وفي ظل هذا الضغط ، أصدر مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بيانًا مرتبكًا يعلن فيه أن نتنياهو لن يشارك،  مبررًا ذلك بـ”الاحتفال بعيد سوكوت الديني”، في تبرير هزلي يكشف حجم الارتباك والتخبط داخل القيادة الإسرائيلية. بدا المشهد كأنه انهيار رمزي لكيان فقد قدرته على اتخاذ قرار، وأصبح رهينة لمعارضيه ، في وقت يزداد فيه عزله دوليًا.

هكذا ، بدت إسرائيل كيانًا فاقدًا للهيبة ، يتوسل دعوات الحضور، بينما تتصدر مصر مشهد السياسة العالمية كقوة عقلانية تُعيد ترتيب أوراق الشرق الأوسط. السعودية بدورها أعلنت في اللحظات الأخيرة مشاركتها بوفد رفيع المستوى بقيادة وزير خارجيتها ، لتؤكد أن محور الاعتدال العربي يقف الآن على أرض صلبة تقوده القاهرة.

ومع اقتراب لحظة انطلاق القمة ، تتجه عدسات الإعلام العالمي نحو شرم الشيخ ، حيث تُكتب فصول جديدة من التاريخ. الأرض التي احتضنت السلام يومًا بين مصر وإسرائيل، تعود اليوم لتحتضن سلامًا أكبر، لا يُعيد فقط الهدوء إلى غزة، بل يعيد تعريف من يملك مفاتيح الشرق الأوسط.

إنها مصر – حيث تتحول السياسة إلى فن ، والدبلوماسية إلى رسالة، والقيادة إلى مشهد يجمع العالم حولها من جديد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!