✍️ يوحنا عزمي
في لحظة تُشبه المشاهد التي لا يُصدقها عقل، ظهرت سابقة سياسية غير مسبوقة : الولايات المتحدة نفسها تضغط على أوكرانيا بقوة غير معهودة لتوقيع اتفاق لا يمكن وصفه إلا بأنه استسلام كامل ، استسلام يحمل كل معاني الإذلال والانكسار أمام موسكو ، ويُعتبر في نظر المراقبين أكبر سقوط للغرب عسكرياً وسياسياً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
العالم يقف مذهولًا أمام مشهد لا يتكرر : الغرب بكل ضخامته ، بحلفائه ، بحساباته ، ينحني أمام روسيا من دون أن تخوض موسكو حتى حرباً مباشرة مع الناتو.
الأعجب أن واشنطن ، التي كانت تُقسم بأنها لن تتراجع، أصبحت الآن هي من يدفع باتجاه إعلان بنود تسوية تُعترف ضمنياً بأنها هزيمة للمعسكر الغربي كله.
ولو أنك لست متابعاً لما يدور في كواليس واشنطن وموسكو وكييف في الأيام القليلة الماضية ، فقد فاتك كثير. ما يجري الآن هو لحظة دفن رسمي للطموح الأوكراني، وانقلاب كامل في ميزان القوة الذي ظل الغرب يتباهى به لعقود.
روسيا التي بدا أنها على وشك الانهيار في بداية الحرب ، أصبحت فجأة الفائز الذي يملي شروطه، بينما أوروبا تنكمش وتفقد قدرتها على التأثير في أي قرار مصيري.
الأسوأ من ذلك كله هو أن هذه التحولات الأوروبية ليست مجرد شأن إقليمي، بل تُلقي بظلال ثقيلة على موازين القوى في شرق آسيا ، وتفتح الباب لصراع عالمي قد يبدأ في أي لحظة.
خرجت منذ ساعات قليلة تقارير أمريكية وأوروبية تكشف تفاصيل ما يحدث خلف الستار : إدارة ترامب تضغط بقوة على الرئيس الأوكراني زيلينسكي ليتنازل رسمياً لموسكو عبر اتفاقية سلام جديدة، لكن السلام هنا مجرد كلمة تلطف حقيقة ما يجري. المسودة المكونة من 28 بندًا ليست اتفاقًا، بل لائحة تنازلات صادمة ؛ بنود صيغت وكأنها خرجت مباشرة من مكتب بوتين.
تخيل أن ورقة واحدة حولت أوكرانيا من دولة كانت تحلم بالانضمام للناتو إلى دولة تُجبر على تعديل دستورها ، وتحديد جيشها ، وتقديم اعتراف رسمي بضم روسيا لأقاليم كاملة.
المسودة تبدأ بصاعقة : أوكرانيا تُقر بأن إقليمي دونباس والقرم أراضٍ روسية بلا أي شروط. ليس ذلك فقط ، بل تتنازل أيضًا عن السيطرة على مناطق خيرسون وزابوروجيا، وتُسلم عملياً خطوط التماس لصالح موسكو ، وتقبل بتوزيع طاقة محطة زابوروجيا النووية مناصفة بينها وبين روسيا، رغم أن المحطة داخل حدودها سابقًا. ثم يأتي البند الأشد فتكا، الذي يفرض على كييف تعديل دستورها بحيث تمتنع نهائيا عن الانضمام للناتو ، مع نزع السلاح الهجومي وتقليص الجيش إلى 600 ألف جندي.
وبينما تتوقع أن روسيا ستقدم تنازلات مقابل هذا السيل من الامتيازات ، تكتشف أن المقابل أشبه بنكتة سوداء : الغرب سيعيد دمج روسيا في النظام الاقتصادي العالمي خطوة بخطوة، ويمنحها فرصة للعودة إلى مجموعة G8، المجموعة نفسها التي تم إخراجها منها باعتبارها “دولة مارقة”.
بل إن الاتفاق يتضمن بنداً عبثياً يمنح روسيا حق المشاركة في مشاريع اقتصادية مشتركة مع أمريكا وأوروبا عبر صندوق استثماري ضخم ممول من الأصول الروسية التي صادرها الغرب كعقوبة بعد الحرب. ما يعني ببساطة أن الأموال التي انتُزعت من روسيا كعقاب ستعود إليها كوسيلة شراكة في إعادة إعمار أوكرانيا نفسها .. وعلى أمريكا النصيب الأكبر من الأرباح ، بينما أوروبا تتلقى ما يمكن وصفه بالخسارة الفادحة.
الأكثر خطورة أن الوثيقة تمنح روسيا اعترافًا دولياً ضمنياً بضمها للأراضي التي احتلتها ، من دون أي ضمان فعلي بأنها لن تعاود الهجوم لاحقاً. وهذا ما دفع صحيفة “التلغراف” البريطانية إلى وصف الاتفاق بأنه “استسلام مفروض”، وليس سلاماً. الدولة نفسها التي تخلت قبل 30 عامًا عن سلاحها النووي مقابل ضمانات أمريكية وبريطانية – ضمن اتفاق بودابست – تُجبر الآن من نفس الدول الموقعة على الإعتراف بخسارتها وتقطيع أوصالها.
لكن السؤال الأهم يبقى : كيف وصلت أوكرانيا إلى هذه اللحظة المظلمة؟ ولماذا أصبح الضغط الأمريكي بهذا العنف، إلى حد دفع زيلينسكي نحو توقيع وثيقة تُنهي سيادة بلده؟
الإجابة تكمن في حقيقة مرعبة تتكشف يوماً بعد يوم : الانهيار الداخلي لأوكرانيا. الهجوم المضاد الذي كان الغرب يعول عليه في 2023 انتهى بفشل تاريخي ، والجيش الأوكراني يعاني نقصاً حاداً في الذخيرة والجنود.
التقارير الغربية تؤكد أن أعداداً ضخمة من الجنود يتركون مواقعهم هربًا، وأن المعدات الثقيلة تتناقص بسرعة مخيفة، وأن خطوط الدفاع تنهار في مناطق متفرقة.
بينما يحدث ذلك ، تقف روسيا في الطرف الآخر من المعادلة بقوة غير مسبوقة. جيشها يتقدم بثبات في دونيتسك وزابوروجيا وخاركيف ، مسيطرًا على معظم المناطق التي شكلت هدف الحرب منذ بدايتها. القصف اليومي على كييف دمر البنية التحتية للطاقة ، والشتاء الذي بات على الأبواب يهدد ملايين السكان الذين يعانون انقطاع الكهرباء والتدفئة لساعات طويلة كل يوم.
الأزمة لا تقتصر على أوكرانيا وحدها ؛ أوروبا نفسها في حالة انهيار استراتيجي. أسعار الطاقة تزداد جنوناً، التضخم يلتهم اقتصادات الدول الأوروبية ، واليمين المتطرف يصعد إلى الحكم أو يقترب منه بدرجة مخيفة.
الناتو يكتشف أنه غير مستعد لحرب عصرية تعتمد على المسيرات والصواريخ الدقيقة ، ويُدرك أن أي مواجهة مباشرة مع روسيا ستكون ثمنها أرواح مئات الآلاف من الجنود.
التصريحات الرسمية في أوروبا صارت صادمة ؛ جنرال فرنسي يطلب من شعبه “الاستعداد لفقدان أبنائهم”، وهولندا توزع كتيبات تُعلم الناس كيف يعيشون ثلاثة أشهر بلا كهرباء أو ماء ، فيما تضرب المسيرات الروسية مطارات في عمق أوروبا نفسها.
لقد أدركت أوروبا الآن حقيقة لا مفر منها : روسيا تحولت إلى ماكينة حرب لا يمكن إيقافها ، وفي المقابل لم يعد باستطاعتهم تمويل أوكرانيا أو تسليحها بما يكفي.
أما أمريكا فتعرف جيدًا أن تزويد كييف بسلاح كالـ”توماهوك” يعني مواجهة نووية مفتوحة قد يبدأها بوتين بسلاح نووي تكتيكي.
لقد وصلت اللعبة إلى مرحلتها الأخيرة … “كش ملك” لا رجعة فيه. لم يعد أمام الغرب سوى خيار واحد : إنقاذ ما يمكن إنقاذه ، حتى لو كان الثمن الاعتراف بانتصار روسيا.
لكن الأزمة الكبرى ليست في أوكرانيا ، بل في التداعيات التي ستنتشر خارج أوروبا. إذا تمكنت قوة نووية كروسيا من غزو دولة حليفة للغرب والانتصار عليها، فهذه رسالة مباشرة لكل قوة نووية في العالم .. والصين بالتحديد تلقت هذه الرسالة بوضوح. شرق آسيا الآن يغلي ؛ الصين تستعد لخطوتها الكبرى ضد تايوان ، واليابان تعلن لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية أنها ستُعيد التسلح بالكامل وستدخل الحرب إذا غزت الصين تايوان.
الفترة المقبلة ستكون مليئة بالتحولات الكبرى التي ستعيد رسم ملامح العالم. الأحداث تتسارع ، والاصطفافات تتغير، وما يبدو اليوم نهاية صراع في أوروبا قد يكون الشرارة التي تشعل صراعاً أكبر في آسيا.




