✍️ يوحنا عزمي
لم تمر أربع وعشرون ساعة على توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في شرم الشيخ حتى عاد المشهد إلى نقطة الصفر. فجر اليوم ، دوى الرصاص من جديد في شوارع خان يونس ، بعدما فتحت قوات الإحتلال الإسرائيلي النار على مدنيين عُزل كانوا يحاولون ببساطة تفقد منازلهم المدمرة بعد أسابيع من القصف. سقط خمسة شهداء على الفور ، وربما أكثر ، بينما الرواية الإسرائيلية الجاهزة كالعادة تحاول إلباس الضحايا ثوب “المقاتلين” لتبرير الجريمة. يقول جيش الاحتلال إنهم دخلوا “منطقة محظورة”، بينما الحقيقة الواضحة أن أحدًا لم يتجاوز الخطوط ، وأن القتل سبق البحث عن المبرر كعادة الاحتلال منذ عقود.
لكن ما يزيد المرارة أن التصعيد لم يتوقف عند ذلك الحد. فبينما كانت فصائل المقاومة تحاول الالتزام بالاتفاق وتسليم جثث الأسرى الإسرائيليين كما نصت البنود ، واجهت صعوبات هائلة في استخراجها من تحت الركام بسبب حجم الدمار الذي خلفه القصف نفسه. ورغم أن الاتفاق لم يحدد مهلة زمنية للتسليم، اختارت الحكومة الإسرائيلية أن تُصعد، فأغلقت معبر رفح بشكل كامل ، وقلصت دخول شاحنات المساعدات إلى النصف تقريبا ، بحجة أن “حماس لم تسلم سوى أربع جثث من أصل عشرة”.
وهنا تكشفت الحقيقة أمام الجميع : إسرائيل هي التي تغلق المعبر متى شاءت ، لا مصر كما يروج البعض. ومع ذلك لم تلتزم تل أبيب بأي خطوة لتهدئة الموقف ، بل استغلت الظرف لتضييق الخناق أكثر على مليوني إنسان ينتظرون الغذاء والدواء في القطاع المحاصر. وكأنها كانت تبحث عن ذريعة لتفجير الإتفاق منذ البداية.
وسط هذا التوتر ، تحركت القاهرة بسرعة كعادتها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من بقايا الاتفاق الهش. أرسلت لجنة مصرية خاصة إلى داخل القطاع للمشاركة في البحث عن الجثث وإتمام عملية التسليم عبر الصليب الأحمر. وبالفعل تم العثور على الجثث وتسليمها ، غير أن الإحتلال لم يغير موقفه ، ولم يعلن فتح المعبر أو السماح بدخول المساعدات. بدا وكأن هناك نية مبيتة لإفشال التهدئة ، خاصة مع اقتراب لحظة حساسة في تل أبيب : عودة نتنياهو للمثول أمام المحكمة الإسرائيلية بتهم الفساد.
القناة الثانية عشرة الإسرائيلية أكدت أن رئيس الوزراء سيواجه القضاء مجددًا غدًا، ومن الواضح أنه يحاول خلق أزمة جديدة ليصرف الأنظار عن محاكمته. إشعال أزمة مع المقاومة يعني بالنسبة له استعادة أوراق القوة والظهور بمظهر القائد “المحاصر بالأعداء”، بدل أن يظهر في هيئة متهم بالرشوة وسوء استغلال السلطة. وهكذا يختلط الدم الفلسطيني بمناورات السياسة في تل أبيب ، ويصبح جسد غزة ورقة في يد زعيم مأزوم.
لكن ما يجري في الشرق الأوسط ليس سوى وجه من وجهي المشهد العالمي المشتعل. في الجهة المقابلة من الكوكب ، وتحديدًا في أوروبا، تتصاعد المخاوف من حرب كبرى تلوح في الأفق. ففي نفس اليوم الذي احتضنت فيه شرم الشيخ قمة السلام ، وقف رئيس المخابرات الألمانية “مارتن ييجر” أمام البرلمان في برلين ليقدم تقريرًا بالغ الخطورة. قال بالحرف إن روسيا باتت في وضع هجومي غير مسبوق، وإنها تختبر حدود دول شرق أوروبا بشكل ممنهج ، وقد تهاجم حلف الناتو “في أي لحظة”. وأضاف أن أوروبا أصبحت الآن “تحت النار” – عبارة تعني أن القارة عملياً في حالة حرب مفتوحة.
وخلال الأيام الأخيرة، أكدت تقارير متعددة وقوع اختراقات روسية متكررة للأجواء الأوروبية عبر طائرات حربية ومسيرات ، طالت دولًا مثل بولندا والدنمارك والنرويج وحتى ألمانيا نفسها. وفي حادثة لافتة ، اخترقت مقاتلات روسية المجال الجوي الإستوني لمدة اثنتي عشرة دقيقة ، ما دفع الناتو إلى إرسال طائرات لاعتراضها. النتيجة كانت إغلاق مؤقت لعدد من أكبر المطارات الأوروبية مثل ميونخ وأوسلو وكوبنهاجن، وإطلاق حالة استنفار غير مسبوقة في صفوف التحالف.
رد أوروبا لم يتأخر. بريطانيا بدأت فعليًا بناء جدار دفاعي إلكتروني يعتمد على الطائرات المسيرة لحماية حدود الناتو، وألمانيا رفعت ميزانيتها الدفاعية إلى أعلى مستوى منذ الحرب العالمية الثانية. ووفقًا لتقارير “بلومبرج”، أقرت برلين صفقات تسليح تتجاوز 7.5 مليار يورو استعدادًا لأي مواجهة محتملة. أما الحلف الأطلسي نفسه ، فأطلق عملية “Eastern Sentry” لتقوية دفاعاته الجوية في شرق القارة ، مع ميزانية ضخمة تُظهر أن الحديث عن حرب لم يعد مجرد تكهنات.
وفي المقابل ، أعلنت الولايات المتحدة نيتها تزويد أوكرانيا بصواريخ “توماهوك” المتطورة ، وهو ما اعتبرته موسكو تصعيدًا خطيرًا قد يغيّر قواعد اللعبة. هكذا يجد العالم نفسه أمام خريطة جديدة تتشكل بسرعة مذهلة : غزة تحترق مجددًا ، أوروبا تتحصن لليوم الذي تخشاه، وأمريكا تستعد لمرحلة جديدة من سباق النفوذ ضد روسيا والصين في كل بقعة من الكوكب.
إن ما نراه اليوم ليس أحداثًا متفرقة ، بل خيوطًا مترابطة في لوحة واحدة من الصراع على شكل النظام العالمي القادم. الشرق الأوسط يعيد رسم حدوده بالنار ، وأوروبا تتأهب لشتاءٍ باردٍ بالحروب ، والعالم بأسره يقف على حافة تحوّل تاريخي جديد. ما الذي سيحدث غدًا؟ لا أحد يعرف، لكن المؤكد أن التاريخ يكتب الآن ، والرصاصة الأولى قد أُطلقت بالفعل، في غزة كما في أوروبا، لتعلن أن زمن الهدوء قد انتهى.