✍️ يوحنا عزمي
يبدو المشهد السياسي الذي يعيشه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي اليوم أشبه بحصار متعدد الجبهات، يضغط عليه من الداخل والخارج في آن واحد ، ويضعه في وضع بالغ التعقيد يجعله غير قادر على إتخاذ قرار حاسم يحدد مسار أوكرانيا في المرحلة المقبلة.
فهو أولاً في مواجهة حالة غضب وتململ شعبي متنامٍ، شعب أنهكته الحرب ، وخسر الكثير من أبنائه وأراضيه واقتصاده، ويشعر بأن الطريق بات مسدوداً ، وأن وعود الانتصار صارت بعيدة المنال. وفي الوقت ذاته يجد نفسه مضطراً للتعامل بحذر شديد مع إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، التي تطرح خطة سلام تحمل في داخلها ما يبدو كأنه إجبار لأوكرانيا على تقديم تنازلات ثقيلة ، وهو يدرك تمام الإدراك أن قبولها قد ينقذه من استمرار حرب مستنزفة ، لكنه في الوقت نفسه يعلم أن إعلان هذا القبول بشكل صريح سيكلفه الكثير داخلياً وقد يطيح بشرعيته السياسية.
فهو من ناحية مقتنع بأن الحرب التي طال أمدها أنهكت بلاده بشكل لا يمكن احتماله ، وأن الاستمرار فيها دون أفق واضح لن يجلب سوى المزيد من الخراب والخسائر ، خصوصاً مع تراجع الدعم الدولي وتزايد شعور الحلفاء بالإحباط. ولكنه في المقابل يدرك أن الخطة الأمريكية تحمل شرطاً يصعب على أي قائد أوكراني المجاهرة بتأييده ، وهو القبول بتنازلات إقليمية كبرى كانت الحرب أصلاً تهدف إلى منعها.
فالشعب الأوكراني الذي صمد لسنوات لن يقبل بسهولة بفكرة التخلي عن أجزاء من أراضيه ، ولن يتسامح مع أي زعيم يوقع على اتفاق يراها تهديداً لسيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها، خاصة إذا كان الاتفاق سيُعرض لاحقاً على استفتاء شعبي ، الأمر الذي يجعل القرار أكثر حساسية وتعقيداً.
وتزداد ملامح هذا المأزق قتامة إذا ما وضعنا في الحسبان البند الآخر المرتبط بتسوية السلام ، وهو التزام أوكرانيا بالامتناع نهائياً عن السعي للانضمام إلى حلف الناتو أو الاتحاد الأوروبي. مثل هذا الشرط يُعد في نظر الشعب الأوكراني إلغاءً لحق الدولة في اتخاذ قرارات سيادية لحماية أمنها في المستقبل ، وتعطيل قدرتها على تحديد موقعها الجيوسياسي بما يتناسب مع المتغيرات الدولية والتهديدات المحتملة.
كما أن تحول أوكرانيا إلى مجرد دولة فاصلة بين روسيا والناتو يعني بالنسبة للشعب وضعاً دائماً من الهشاشة والانكشاف ، وهو ما يجعل هذا الشرط مرفوضاً على نطاق واسع.
وفي وسط هذا المشهد الملبد بالضباب ، يجد زيلينسكي نفسه تحت ضغط آخر لا يقل ثقلاً ، وهو ضغط الشركاء الأوروبيين الذين وقفوا معه خلال السنوات الأربع الماضية، ودعموه سياسياً وعسكرياً واقتصادياً.
هؤلاء لا يريدون منه أن يقبل الخطة الأمريكية كما هي ، ويطالبونه بضرورة تعديل بنودها بما يضمن عدم ترجيح كفة روسيا على حساب أوكرانيا. الإعلام الأوروبي بدوره يغذي هذا الخطاب ، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالذات يلعب دوراً محورياً في تعزيز شعور زيلينسكي بأنه سيكون الخاسر الأكبر إذا ما وافق على تسوية غير عادلة. بل إنه يعِده باستمرار دعم فرنسا، وبحزمة أسلحة جديدة تشمل مائة طائرة رافال متطورة، وكأن كل جهة تريد أن تجذبه إلى جانبها ، بينما هو يغرق وسط التيارات المتصارعة التي تجره في اتجاهات متناقضة تجعله عاجزاً عن الثبات على قرار واضح.
لكن الهاجس الذي يسيطر على زيلينسكي أكثر من غيره، والذي قد يسلبه النوم ويجعله يعيش في دوامة من القلق، هو ما سيحدث له بعد أن تضع الحرب أوزارها، حين تُفتح ملفات الحساب والمساءلة. فالنهاية قد تكون كارثية على المستوى الشخصي والسياسي ، وقد يجد نفسه متهماً أمام شعبه بأنه كان سبباً في المأساة التي مرت بها البلاد ، وأن قراراته السياسية والعسكرية قادت أوكرانيا إلى هزيمة كبرى، سواء حاول الاعتراف بذلك اليوم أم تجاهله.
فالشعب الذي تحمل الخسائر الفادحة لن يتردد في البحث عن المسؤول، وقد يوجه أصابع الاتهام إليه، خاصة إذا شعر بأنه كان أداة في يد بعض الحلفاء الأوروبيين الذين دفعوه للاستمرار في الحرب بهدف إنهاك روسيا وتحجيمها، دون أن يكون ذلك بالضرورة في مصلحة أوكرانيا نفسها.
ومع انتهاء الحرب ، سيختفي الجميع ، وسيتراجع الدعم، ويُترك زيلينسكي وحيداً في مواجهة مصيره ، تماماً كما حدث لسياسيين كُثر في أزمات مشابهة عبر التاريخ.
وساعتها لن تشفع له مواقفه ولا خطاباته ولا تحالفاته، وسيكون عليه أن يدفع الثمن ، وربما يكون ثمناً باهظاً للغاية ، لأن الطريق الذي سلكه قاد بلاده إلى وضع شديد القسوة انتهت فيه كل الخيارات الدبلوماسية، ووجد الجميع أنفسهم في مأزق لا يملكون الفكاك منه.
هكذا تبدو الصورة اليوم ، شديدة التعقيد وكثيفة الظلال، وكأن زيلينسكي يقف على حافة مستقبل مجهول لا يملك السيطرة على ملامحه ، وسط عالم سياسي يتغير بسرعة ويترك خلفه كل من لا يستطيع مواكبته.




