✍️ يوحنا عزمي
الهدنة التي طال انتظارها دخلت حيز التنفيذ أخيراً ، لتعلن عن بداية مرحلة جديدة في واحدة من أعقد الأزمات في الشرق الأوسط. فعند تمام الساعة الثانية عشرة ظهر اليوم بدأ تنفيذ الاتفاق الذي أنهى سنوات من الدم والنار، وبدأت معه رحلة البحث عن مستقبل مختلف لغزة والمنطقة بأسرها. ومع حلول الساعة الرابعة عصرًا ، من المقرر أن تصادق حكومة الإحتلال على الاتفاق داخل الكنيست، ليتم بعد ذلك الإعلان عن خريطة الانسحاب الميداني وفقًا للمرحلة الأولى المتفق عليها، مع نشر القوائم الرسمية لأسماء الأسرى الفلسطينيين الذين سيُفرج عنهم ضمن الصفقة. ومع حلول المساء ، يبدأ الانسحاب الفعلي للقوات الإسرائيلية من المناطق المحددة في خطة ترامب ، في مشهد يترقبه العالم بأسره كإشارة أولى على أن الحرب الدامية تقترب من نهايتها.
وخلال يومي الجمعة والسبت سيستمر تنفيذ مراحل الانسحاب تدريجيًا ، بالتوازي مع إستعداد المقاومة الفلسطينية لتسليم الأسرى الإسرائيليين الأحياء وجثامين القتلى منهم، في إطار ترتيبات إنسانية وأمنية معقدة تشرف عليها مصر بدقة لضمان سير العملية بسلاسة ومن دون خروقا.
أما الأحد المقبل ، فيُتوقع أن يشهد لحظة رمزية فارقة حين يصل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى القاهرة ، ليوقع بنفسه على اتفاق إنهاء الحرب ويعلن رسميًا نهاية العمليات العسكرية. ومن المرجح أيضًا أن يتوجه إلى إسرائيل لإلقاء خطاب داخل الكنيست، في خطوة تسويقية يريد من خلالها أن يقدم نفسه أمام الرأي العام العالمي كصانع سلام. ومع بداية يوم الإثنين ، تبدأ مرحلة جديدة من التطبيق العملي للاتفاق ، حيث سيجري تبادل الأسرى بين الجانبين تحت إشراف مباشر من مصر وقطر وتركيا، بينما تبدأ إسرائيل في الانسحاب من المعابر الحدودية وتسمح بدخول ما لا يقل عن 400 شاحنة مساعدات إنسانية يوميًا إلى القطاع، على أن يرتفع العدد تدريجيًا مع استقرار الأوضاع. وبهذا ، تكون 90% من أسباب استمرار الحرب قد طُويت فعلياً.
لكن المرحلة الثانية من الاتفاق هي الأخطر والأكثر حساسية ، لأنها ستحدد مصير المقاومة ومستقبل وجود حركة “حماس” في قطاع غزة. فبحسب تقرير شبكة CNBC، فإن خطة ترامب لمستقبل غزة تتألف من عشرين بندًا، تتضمن تفاصيل إعادة الإعمار وإطلاق سراح الرهائن ونزع سلاح الحركة. غير أن وكالة “رويترز” نقلت أن المقاومة رفضت بشكل قاطع البند المتعلق بالتخلي عن السلاح ، رغم الضغوط المكثفة التي مورست عليها من بعض دول الخليج. وقد دعمت مصر هذا الموقف ، ليتم تجميد البند مؤقتًا مع الاتفاق على أن يُناقش لاحقًا حين تُسلم إدارة القطاع إلى السلطة الفلسطينية التي ستتولى إدارة شؤونه مستقبلاً
أما بشأن إدارة غزة، فخطة ترامب كانت تتحدث عن إنشاء كيان جديد يسمى “مجلس السلام”، يتكون من مشرفين من دول عربية ويترأسه ترامب شرفيًا، بينما تكون الإدارة الفعلية لتوني بلير ، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق. غير أن المقاومة رفضت هذه الصيغة بشكل قاطع ، مؤكدة أنها لن تتنازل عن إدارة القطاع إلا لحكومة تكنوقراط فلسطينية تتبع للسلطة الفلسطينية وتلقى دعمًا عربيًا وإسلاميًا. وقد أيدت مصر هذا الموقف بشكل كامل، ويبدو أنه هو الاتجاه الذي تسير إليه المفاوضات الآن بنسبة شبه مؤكدة.
في النهاية ، يمكن القول إن ما يُنفذ الآن على الأرض هو الرؤية المصرية لوقف الحرب ، والتي تقوم على تأسيس حكومة فلسطينية مستقلة أو تكنوقراط تدير القطاع تمهيدًا لقيام دولة فلسطينية ذات سيادة. غير أن حكومة الإحتلال ترى في هذا المسار خطرًا سياسيًا عليها، خاصة وأنه يمثل هزيمة غير معلنة لنتنياهو ، الذي خرج من الحرب فاقدًا لمصداقيته أمام شعبه، بعدما فشل في القضاء على المقاومة أو استعادة الأسرى إلا عبر المفاوضات ، كما فشل في تنفيذ مخطط التهجير إلى مصر رغم كل ما أحدثه من دمار. وهكذا يظهر أمام الإسرائيليين اليوم كقائد مهزوم، عاجز عن تحقيق وعوده، في وقت تتزايد فيه الدعوات لمحاكمته ومحاسبته، ما يجعله يسعى لإشعال صراع جديد قد يكون مع إيران، في محاولة لتغيير المشهد وإطالة عمره السياسي قبل سقوط محتوم.
وهنا يبقى الدعاء بأن تمر الأيام القادمة بسلام، وأن لا تُفتح جبهات جديدة تعيد المنطقة إلى دوامة النار. وفي ختام هذا المشهد الطويل والمؤلم ، لا يسعنا إلا أن نبارك لإخوتنا في فلسطين على صمودهم الأسطوري وانتصارهم الإنساني قبل أي شيء، فبصبرهم ودمائهم وكرامتهم فرضوا واقعًا جديدًا، وأجبروا العالم على الاعتراف بقضيتهم مجددًا. نسأل الله أن يجعل هذه الهدنة بداية حقيقية لسلام عادل، ونهاية لسلسلة المآسي التي أثقلت قلوب العرب جميعًا ، وأن تكون هذه الصفحة الجديدة من تاريخ فلسطين بداية فجرٍ لا تغيب شمسه.